سيادة الفراغ (نصري الصايغ)
نصري الصايغ
وجهة لبنان المزمنة هي الفراغ. والفراغ، لا يعني هنا الفراغ الدستوري. لقد تكفلت النصوص بملء الفراغ، أحياناً بالوكالة وأحياناً بالإحالة، فلا فراغ أبداً. يستطيع لبنان أن يستمر، من دون انتخاب رئيس للجمهورية. دولته تسير ولو بحكومة بتراء، أو بحكومة تصريف أعمال، لفترة مديدة. مجلس النواب يفتي بالتجديد لنفسه فيصبح شرعياً، ولو أدى ذلك إلى تزوير إرادة اللبنانيين. بإمكان أي مؤسسة لبنانية أن تسيّر أمورها، ولو فقدت مدراءها العامين… ومع ذلك، فلبنان يتجه إلى الفراغ الطبيعي والكامل، بنصاب دستوري أصيل، أو بنصاب دستوري وكيل.
فلنقلع عن حجة الفراغ الدستوري. الشواهد على استمرارية الدولة ومؤسساتها كثيرة جداً. والعرج المشكو منه إبان «الفراغ الدستوري»، (بالوكالة) تضاهيه حالات التوعك والمرض، إبان انتظام آلية إنتاج السلطة والتعيينات. فالدولة اللبنانية تعيش فراغاً سياسياً مذهلاً من زمان غير قصير. فلطالما كانت الدولة محظية برئيس جمهورية منتخب للبنانيين من غير اللبنانيين، وبحكومة ممهورة بثقة الدول الإقليمية، الراعية والنافذة والداعمة والمموِّلة والآمرة (أحياناً)، وبمجلس نيابي مكتمل التمثيل ويقوم بأداء مهماته على أنحس وجه، لجهة الرقابة والمساءلة والتشريع، ولطالما كانت مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية والرقابية والقضائية والإدارية في تمام جهوزيتها… لطالما كان كل ذلك في تمام المطابقة مع الأصول المكتوبة، ومع ذلك، فإن لبنان ظل أسير الفراغ. ولا سياسة في حقبة الفراغ، غير سياسة الانتظار… بلا أمل قريب.
الفراغ لا يعني أيضاً انعدام المواقف والتصريحات والبيانات والاجتماعات واللقاءات والتسريبات. الجو اللبناني مشبع بالأدوار البليدة والرديئة. خذوا مثالاً على ذلك، مهزلة تأليف الحكومة. انه لأمر مثير للسخرية كثيراً. انه لأمر يستدعي التوقف كثيراً، ومع ذلك، فلا شيء من هذا ولا ذاك. وبإمكان تمام سلام أن يدخل في نومة أهل الكهف، والبلد يستمر في الحياة، تديره الأزمة ولا يديرها، ويحيط به الفراغ من كل جانب.
بإمكان اللبنانيين أن يستمروا في الكلام غير المجدي عن تجرع التمديد أو توسل السعودية وإيران وأميركا، حتى يختاروا لنا رئيساً، يديره الفراغ من كل صوب.
وبإمكان اللبنانيين أن يعيشوا أيامهم وسط ما يلي: توقع تفجير، إمكانية انفلات أمني، استحالة وقف تدفق النازحين، تصاعد وتيرة العنصرية، مستلزمات تمويل المحكمة الدولية، يضاف إلى ذلك، تضاؤل رقعة الأمان الشخصي للبنانيين، بحيث لا طمأنينة إلا في كنف «الكانتون» المسمى تأدبا، الحاضنة الشعبية، والمقصود الطائفية.
لا مفر من الخوف وإضافة جرعات كبيرة من التنبه، لما آلت إليه أحوال الخطف في لبنان، فاستحال على اللبناني الثقة بأجهزته الأمنية، المشغولة بسواه والمنشغلة عنه، فلجأ إلى حماية ذاتية بواسطة شركات أمنية، توظف جيشاً من العاطلين من العمل، ليقوموا بمهمات هي من مسؤولية الدولة.
مسرحية التراشق بين المسؤولين بتهم الفساد، لم تعد مثيرة. انها تمر مرور الكرام، كأنها حالة طبيعية. الكسارات، التعويضات، المخالفات، سجن رومية، التلزيمات، الطرق، الأحكام القضائية، الأرباح الخيالية، أمور تافهة. لم يعد الفساد اكتشافاً. إنه مرئي ومعلن ومؤيد ويسير بكامل جسارته أمام الملأ. إنه فساد مكشوف ومبارك وله من يؤيده. والظن الغالب أن اللبنانيين المصطفين في صفوفهم المذهبية، يدافعون عن فاسديهم ومفسديهم، دفاعاً مستميتاً.
بإمكان اللبنانيين دائما توقع الأسوأ. فالانتظار في حالة الفراغ، لا يعني أبداً بقاء الحال على سالف المنوال. وفي هذا السياق، لم يعد مجدياً أبداً، انتظار الثروة النفطية. فلا اجتماع لمجلس الوزراء، ولا خطوة في مسار التلزيمات، ولا مسح في منطقة التنقيب في البحر، قبل الاتفاق المسبق على حصة كل فريق من الفرقاء السياسيين الأوليغارشيين. فلبنان ليس بلدا نفطياً، إلا إذا أعطي كل ذي طائفة نصيبه، وكل ذي زعامة حصته. من دون ذلك، سيبقى مسار إنتاج النفط شبيهاً بتبليط البحر. الحكمة اللبنانية الخالدة معروفة. الطائفة هي المعبر عبر زعمائها. فالطائفية ليست حزباً، بل هي شركة. وقد لوحظ، من دون استهجان، عدم تلكؤ مجلس الوزراء في عقد جلسة للتجديد لحاكم مصرف لبنان، حفاظاً على سلامة الليرة، وعلى سلامة المودعين الكبار، وسلامة الحيتان المالية، التي تسبح في بحارها الطائفية.
الفراغ يناسب الطبقة السياسية. استطاعت أن تعايش الفراغ وتعتاش منه. فهي قادرة على التأقلم مع العنف والسلم والحرب وتحافظ على مكتسباتها. والخروج من الفراغ المتعمّد، ليس من مهمات هذه الطبقة، إلا إذا تضررت مصالحها جميعا.
الفراغ، حتى الآن، يناسبها. لا تقدم أي تنازلات، ولا تمس لها أي امتيازات.
في الجانب الآخر من هذه الحالة، ثمة استقالة جماعية من نخب ثقافية وسياسية، تلتقي شهراً وتغيب دهراً.
في الجانب الآخر من هذه الحالة، ثمة عذابات يكابدها لبنانيون يعيشون في مناطق الحرمان وأمكنة التخلي. ثمة يأس مخيف أصاب جيلاً جديداً، لم يعد يؤمن بغير بطاقة السفر إلى دول الخليج. نازحون يتعرضون لعنصرية «موضوعية» بنظر البعض، فقد بات هؤلاء البائسون المعذبون، ينافسون البائسين اللبنانيين في لقمة عيشهم. الدولة الفارغة المستقيلة، لا تؤذي المقاومة، وتداهن 14 آذار، ولا ترد على 8 آذار، والأمور تسير وفق هذا المنوال، من زمان.
استقالة الدولة من دورها في السياسة التي تبحث عن حلول، وهذه هي وظيفة السياسة، أسفرت عن وضع الفقير اللبناني في مواجهة الفقير السوري، ما يجعل العنصرية لغة التبادل وسلعة التنافس.
لبنان في الفراغ… وسيبقى كذلك.