المثقف وفقه الأزمة
حين ينقد مثقف ماركسي تجربته الماركسية الأولى، فإنه في الواقع يناقش جوهر انتمائه، وقناعته المبدئية الأساسية التي فطر عليها، لكنه في الوقت عينه سيبدأ بمناقشة المسافة الهائلة بين النظرية والتطبيق، فالمسألة بالنسبة للمنتمي السابق أقرب إلى المراجعة النقدية، لمسار استسلم إليه الشيوعي المنتمي خلال حقبة من زمنه الكفاحي، لكنه اكتشف بعد المعاينة والتساؤل والتفكير والتجارب، أن ثمّة اختلال ليس بفعل صدمة خارجية هائلة، بل من خلال واقع مرير، والمشكلة ليست بالإخلاص المطلق للحزب وسياسته التطبيقية، بل بنضج التجربة الماركسية ذاتها، على ضوء المنطق الديالكتيكي الذي كان يجب أن يتحكّم بالأمور، هذا إن لم نقل يعقلنها ماركسياً، ويبعدها عن الجمود والذاتية التي غالباً ما حوّلت الأحزاب الشيوعية خلال التجربة الأولى، إلى حقل استنساخي اختباري حافل بالخطأ، لكن الدعاية التي كانت سائدة تصوّره وكأنه معقلٌ للصوابية.
يقول فريدريك أنجلز في أربعينيات القرن التاسع عشر: إن ما نحتاجه عملياً لمعرفة ذواتنا معرفة موضوعية، هو إدراكنا للوعي الإنساني الانعكاسي، لذلك فالماركسي هو وعي متكامل بديالكتيك عملية المعرفة “ديالكتيك عملية الانعكاس”، وهي مسألة لا علاقة لها بالفهم الذاتي للديالكتيك، لأنه مجرد إنشاء فكري محض، غالباً ما يكون خلواً من الأساس الموضوعي، لذلك يجب أن ننكبّ على التنظيم الذي يدير الحزب أو العصبة التي تنتمي أساساً إلى الفكر الماركسي، والمقصود البراكسيس الذي تناوله الكتاب.
وإذا كان كل تطور هو عملية ارتباط بالزمن، فإن علاقتنا النقدية مع الجوانب التطبيقية معناها المراقبة الزمنية الصارمة.
كأني بهذا الكلام الماركسي المتقدّم يكاد ينطبق على واحدة من أكثر التجارب مأساوية في القرن العشرين، ونعني بها تجربة الأحزاب الشيوعية العربية، لأن هذه الأحزاب التي اهتمت اهتماماً بالغاً بالنظرية، لا سيّما بشكلانيتها وفورماتها، أهملت كلياً الجوانب التطبيقية والعملية، بل ضاعت في خضم فوضاها، ابتداءً من تجربة الحزب الشيوعي العراقي ومروراً بتجارب الأحزاب الشيوعية في السودان والمغرب وتونس ومصر وفلسطين وسوريا ولبنان وغيرها.
لذلك، حين يكتب مفكّر ماركسي مخضرم بمستوى الدكتور عبد الحسين شعبان عن فقه الأزمة، فإنه يقرّر حقائق أساسية تقوم على مثالب عايشها، واكتوى بنارها، سواء من خلال تشخيصه للقراءة السطحية للماركسية، وخصوصاً من جانب القيادات وضيق أفقها وموقفها السلبي من المثقفين في الغالب، أو في الموقف من علاقة الحزب بالسلطات التي عايشها في مختلف مراحل كفاحه، (سواء أيام قاسم أو في فترة الجبهة مع البعث أو خلال فترة الاحتلال والحكومات التي قامت وفقاً لصيغته الطائفية الإثنية)، أما على صعيد العلاقات التنظيمية بين كافة مراتب الحزب، والأهم – أو الخطأ الأكبر – كانت العلاقة البيروقراطية الأوامرية بين القيادة والقاعدة، تلك التي غالباً ما تأخذ المسطرة التي يقاس فيها شيوعية الشيوعي، كما يقول خالد بكداش، وهو الولاء المطلق للاتحاد السوفييتي وحزب لينين، الأمر أدى إلى سيادة الاتكالية والوصولية والانتهازية.
لا يعلّق عبد الحسين شعبان كل العيوب على شماعة الآخر، بل يبدأ بالنقد الذاتي للقيادات ذاتها، فقيادة شيوعية معزولة عن جماهيرها، وتتلقى الأوامر من المركز الأممي وتكيّف المصالح الوطنية لمصالح الدولة الكبرى، ستسكن هي في برج عاجي معلّق، بل أكاد أقول: إنه برج بلا نوافذ، لذلك كان السقوط المدوي الرهيب، ليس من القاعدة بل من القيادات ذاتها، خصوصاً في ظل الأزمة البنيوية كما يسميها، وهي أزمة فكر وأزمة قيادة وأزمة نهج وأزمة تنظيم وعلاقات رفاقية، وهو ما دفع أعداد غير قليلة للهرولة باتجاه الملاذ الليبرالي والتبشير بقيم السوق، ولا سيّما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
وتجربة 8 شباط 1963 في العراق، رغم البطولات والتضحيات وصمود سلام عادل وجمال الحيدري وأبو العيس وعبد الرحيم شريف والعبلي والعشرات من الكوادر الذين استشهدوا، فإن الحزب شهد انهيارات من فوق إلى تحت وهي انهيارات سياسية وفكرية قبل كل شيء، انعكست في مواقفه اللاحقة، فلقد تبيّن للجميع بأن الحزب كان قوة هائلة مهملة ومتروكة بلا عناية أو رعاية أو تطوير، وكانت القيادات منشغلة بالصراعات وبالامتيازات، لا سيّما بتقدم الطاعة والولاء للحصول على الرضا السوفييتي، حتى وإن كانت القناعات كاذبة أحياناً، في حين كانت قاعدة الحزب في وادٍ آخر، وهي التي بإمكانها أن تصنع المعجزات، لو جرى تطوير مبادراتها، ولهذه الأسباب شهدت الأحزاب اليسارية عموماً انشطارات عديدة.
الأخطر في كتاب المثقف وفقه الأزمة، ما بعد الشيوعية الأولى، أنه من الشمولية والعمق، بحيث يدفعك لأن تقتنع بأن هناك تجربة ثانية بعد الأولى، وأن استدراك الخطأ بات ممكناً في زمن لم يعد للشيوعية من وجود تطبيقي حتى في الاتحاد السوفييتي الذي تحول إلى دولة روسية تناصب حركات التحرر العداء، وتساهم في إخماد الثورات الشعبية ضد الأنظمة القمعية.
إن استعراضنا للكتاب سوف يكشف أمامنا خمسة أقسام أساسية، أولها يتحدّث عن مأزق المثقف الشيوعي من خلال الذاكرة والمعرفة والحلم. هنا في هذا القسم، ومن خلال الذاكرة نعرّف بأن أربعة أجيال ما بين الأربعينات والستينات من الشيوعيين، حكم على كفاحها بالإعدام، بل التدمير الماحق لكل الآمال. أما المعرفة فما من شيوعي سابق إلاّ ويدين بثقافته ومعرفته للأسس الماركسية التي تربّى عليها، وهي مصدر اعتزاز للكاتب الذي يتشبث بماديته الجدلية، لكن اغتيال الحلم من الأمور التي يصعب أن تناقش إيجابياً.
في القسم الثاني يركز شعبان على المثقف الشيوعي والموقف من الآخر، وهنا يكشف الباحث عقدة احتكار الشيوعية عند بعض الشيوعيين، فكل آخر في أعراف هؤلاء (الجدانوفيين) هو فراغ مضاد غير قابل للنقاش. وهذا هو الخطأ الجسيم، مثلما حاول البعثيون احتكار الوطنية والعراقية، ورمي خصومهم بالعمالة أو الشبهة على أقل تقدير.
في القسم الثالث يذهب الباحث ليلتقط بعض الإشكالات التي ليست سهلة ولا بسيطة أصلاً، مثل قضية ثابت حبيب العاني، وقضية مذكرات عامر عبد الله، وهما قضيتان مأساويتان يتوقف عندهما شعبان بحسّه الإنساني.
أما قضية الصراع بين الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الشيوعي العراقي في الشمال (كردستان) عام 1983، فالأمر مأساة كبرى ذهب ضحيتها العديد من الكوادر الشيوعيين من الأنصار، أمثال (نزار ناجي يوسف شقيق زوجة سلام عادل) وعشرات آخرين بما فيهم عدد من الشيوعيات، ويعود ذلك إلى قصر نظر واستخفاف في التعامل مع الوقائع والأحداث.
والسبب في رأيي يعود إلى التباس موقف الحزب من المسألة الكردية، منذ أوائل الستينات ورفع شعار (السلم في كردستان) خلال فترة حكم عبد الكريم قاسم، وهو شعار عائم لا يضع حلولاً ومعالجات، كما أن موقفه كان خاطئاً بحمل السلاح مع الحكومة العراقية ضد الحركة الكردية، في زمن البعث في السبعينات، ثم الانحياز إلى طرف ضد طرف في ظرف حساس وفي صراع محموم، خلال حرب الأنصار، وتلك السياسة المتذبذبة والخاطئة أدت إلى فقدان التوازن، وصولاً إلى التبعية، وتأييد المواقف الظرفية، بعيداً عن المبدئية.
في القسم الرابع حول المثقف وأزمة الثقافة، سنقرأ أربعة مباحث، هي أدلجة القمع وجدلية الثقافة والوعي، وهنا نعيش مع الباحث بحثه التجريدي التام، لأن التجربة التي عشناها مع صدام حسين، كانت تجربة إلغائية تامة، لهذا بدأ زمن المنافي وبدأت ظاهرة المنفى حيث ملأ المثقفون العراقيون الدنيا.والمشكلة هنا أن الدكتور عبد الحسين شعبان قرأ ما كتبه هادي العلوي، وهو كاتب تراثي مثالي، فيما يمتاز المصري محمد السيد سعيد بمواقف ذات أفق حداثوي، لكن كلا الموقفين كانا يقفان عند الحدود الوصفية للمشكلة (قضية المثقف الكوني) وموقع المثقف اليساري.
المبحث الخامس الذي ناقش فيه شعبان إشكالية المثقف وأزمة التحرّر الوطني، وربما من ضمن هذه المواقف جاء الموقف من الانتفاضة الفلسطينية، أما عودة على موضوع الكتاب، فكان الجزء الذي تحدث عن المثقف الماركسي هو الأكثر خصوبة، وهو الذي طبع الكتاب بكامله، وتجلّى في الجزء الأخير من حوار مع الكاتب وشرح إشكالات الماركسي في الزمن الراهن.
الكتاب الذي يقع في 316 صفحة من القطع الكبير، وهو المراجعة الماركسية النقدية المطلوبة في هذا الزمن، لأن آخر البحارة الذين سيصلون إلى شواطىء الهزيمة هم أولئك المهزومون الذين أنهكتهم الرحلة، وقديما قال الشاعر كفافيس اليوناني – الإسكندراني:
“وما دمت قد خرجت حياتك
في هذا الركن من العالم
فهي خراب، أينما حللت”
صحيفة الزمان العراقية