سهيل عرفة حارس الذاكرة السورية
من زواريب «حيّ الشاغور» الدمشقي في أربعينيات القرن الماضي، سيتأبط الطفل يد والده ليزور بشكل دوري الجامع الأموي. آنذاك، لم يكن يعنيه شيء أكثر من تراتيل المنشدين التي كانت تأسره، كونها المنفذ الموسيقي الوحيد المسموح للعائلة المحافظة.
أثناء تواجده في محلّ تصليح الردايوات المعطّلة في حي السنجقدار، حيث أودعه والده ليتعلّم المهنة، كان الطفل اليافع يتحيّن لحظة بث الفواصل الغنائية على الإذاعة ليستمع إليها بمزاج مختلف. لن تطول الرحلة حتى يعاد المشهد التقليدي للطفل الذي يجمع من مصروفه مبلغاً ويشتري عوداً، فيحيله الوالد المحافظ حطاماً. ثم يكرر التجربة، فتتكرر أولى صدماته في العالم الذي صار ماركة مسجّلة فيه. الحديث هنا عن «حارس الأغنية السورية» وأحد عرّابيها الموسيقار سهيل عرفة (1935).
مرة، استمع الفنان عبد العزيز الخياط والد الموسيقار أمين الخياط إلى عزفه، فدعاه إلى مجلسه الذي كان يحضره أمير البزق محمد عبد الكريم، والفنانون عدنان قريش ورفيق شكري ونجيب السراج الذين قدموه إلى إذاعة دمشق أيّام عصرها الذهبي، حين كانت قبلة لكل الفنانين العرب.
هناك، قدّم لحنه الأول لمغن مغمور حينها يدعى فهد بلان، وقد كانت تمجيداً للوحدة مع مصر وزعيمها جمال عبد الناصر. لاحقاً، سيجتمع بنجاح سلام ويلحن لها أغنيات عدة، قبل أن يجتمع بحليم الرومي ويصطحبه إلى لبنان تمهيداً للقاء صباح والتعاون في أغنية «من الشام لبيروت» التي كانت مجرّد تحمية للشهرة الطائلة التي سيحصدها سهيل عرفة بعد تعاونه الثاني مع صباح في «ع البساطة» في فيلم «أهلاً بالحب» (1968). كرّت بعدها سبحة النجاحات والأغاني الأيقونية ومنها أشهر القدود الحلبية «يا مال الشام» لصباح فخري ورائعة أبو خليل القباني، وأصل القدود «يا طيرة طيري يا حمامة» التي لحّنها لشادية، «وسكابا يا دموع العين» لشريفة فاضل و«يا غزالاً عنّي أبعدوك» لنجاة الصغيرة.
وكي يكتمل عِقد الألق، كان لا بد من أن يضع بصماته على واحدة من الأيقونات السورية الوطنية وهي: «من قاسيون أطلّ يا وطني» لدلال الشمالي. فكيف لمن يذكر الشام اليوم وهي في محنتها الأكبر منذ عقود طويلة، ألا يستحضر بشغف اسم سهيل عرفة، هو الذي عرف أن يصيغ أجمل ما قيل في قاسيون وشموخه الذي يعتبر بمثابة بوابة دمشق الثامنة. هكذا، صار الرجل مربط مديح وذكرى طيّبة، كونه صاحب الفضل الأكبر في إعطاء سمة الخلود لبعض الأغاني السورية.
لاحقاً، وضع عرفة بصماته على مسلسلات هامة منذ انطلاق الدراما التلفزيونية في سوريا. كذلك، لم يغب عن الفن السابع، لكنّه كان يسأل دوماً عن سبب التلكؤ أمام دعم الأغنية السورية، مقابل بذل الغالي والنفيس في صالح الدراما التي قطفت المجد خلال العقدين الأخيرين!
منذ زمن طويل، لم يظهر الملحّن السوري على الإعلام. ورغم أن أغانيه تجتاح معظم الإذاعات العربية، إلا أنه قليلاً ما يعرف الإعلام السوري تكريم مبدعيه، وربما كان آخر ما قدمه هو إصدار أسطوانة لأعماله سنة 2009 في دار الأوبرا السورية.
قلّة من الجمهور كانت تعرف حقيقة إصابة سهيل عرفة بمرض خطير، جعل ابنته النجمة أمل عرفة تعبّر عن عواطفها تجاهه علناً، وتتمنى شفاءه، نتيجة اشتداد المرض عليه في الأيّام الأخيرة الماضية. لكن محاسن القدر وقفت إلى جانبه، فتجاوز مرحلة الخطورة من دون أن يغيب خطر المرض بشكل كلّي. الخبر جعل بعض وسائل الإعلام يتذاكى كعادته ببلاهة مهنية، ومجافاة لكل الأخلاق والأعراف، فيربط في عناوينه بين المرض العضال واسم نجمة «دنيا»، ما دفعها إلى التوضيح عبر السوشال ميديا وشرح ملابسات الموضوع. ما عوّض عن انعدام المسؤولية الإعلامية هو سيل التعاطف الجارف عبر مواقع التواصل الاجتماعي من محبي وأصدقاء الملحّن المعروف وابنته.
يستحق سهيل عرفة ومثله كثيرون أن يحظوا بالتكريم والحفاوة الإعلامية في حياتهم، بخاصة إذا حاصرتهم المحن، عسانا نخلق لهم دافعاً إيجابياً يجعلهم يتمسكّون أكثر بالحياة، وينتبهون أن جهد السنين والعمل ليل نهار في سبيل الفن، لم يذهب هباء منثوراً، ولم يطوه النسيان طالما أن الفن الراقي وحده عصي على الزمن.
صحيفة الأخبار اللبنانية