رحلة في التاريخ : اغتيال الدكتور عبد الرحمن الشهبندر
لايمكن لمن يمشي في شوارع دمشق الحديثة أن يغض الطرف عن اللافتات الإعلانية الموزعة في مختلف جهات الشوارع أو الأسواق والتي ترشد المارة إلى مهن أخرى لاعلاقة لها بالتسوق اليومي..
في هذه اللافتات نقرأ عن الأطباء والمحامين وغيرهم ، وتراود كل من يقرأ هذه اللافتات هواجس متنوعة، من بينها أن أحدا لن يطرق أبوابها وسط هذا الضجيج في البيع والشراء في أسواق دمشق الشهيرة ..
على العكس من ذلك، فعندما تدخل إلى واحدة من هذه الأماكن، تكتشف أنها أماكن فاعلة يحتاجها الإنسان في لحظة ما قد تتعلق بحياته، ذلك ما تكشفه خبايا العيادات في الشوارع والحارات ..
في حي الشعلان القديم، وهو حي دمشقي شهير يتوسط المدينة ويحاذي شارع الحمراء الجديد ويتصل به، في هذا الحي يوجد بناء شهير هو بناء الشنواني، وفي هذا البناء كانت هناك عيادة من أشهر العيادات في التاريخ السوري والعربي ، هي عيادة الدكتور عبد الرحمن الشهبندر!
من هو الدكتور عبد الرحمن الشهبندر؟! ولماذا لاحقه القتلة إلى عيادته ليطلقوا النار عليه بعد تنكرهم بزي مرضى جاؤوا ليعالجهم ويصف لهم الدواء ؟!
كتب الكثير عن قصة اغتيال الشهبندر، لكن النقطة الأبرز في هذه المسألة هي كونه وجها وطنيا حضاريا من وجوه المدينة التاريخية التي لابد أن يحبها كل من يقوم بزيارتها ..
ولد الدكتور عبد الرحمن الشهبندر في السادس من تشرين الثاني عام 1879 وهو ابن صالح الشهبندر تلقى علومه بدمشق وبيروت، وتزوج عام 1910 من سارة العظم ، وفي سيرته السياسية أنه حارب الأتراك والفرنسيين أي أن روحه الوطنية كانت تدفعه إلى معادة كل من يحمل الشر لبلاده ..
درس عبد الرحمن الشهبندر الطب في الجامعة الأمريكية في بيروت ليتخرّج منها عام 1906. وكان على اتصال مع قامات مهمة من أولئك الذين سيعرفون فيما بعد بشهداء السادس من أيار، فالمراجع التاريخية تتحدث عن اتصاله ببعض معارضي الحكم العثمانيّ مثل عبد الحميد الزهراوي في بداية شبابه محاربًا تصرّفات جمال باشا السفّاح، لكن مهنة الطب والموقف السياسي لم تمنعه من مزاولة مهنة أخرى هي الصحافة فقد تولى الشهبندر رئاسة تحرير جريدة الكوكب في مصر ثم تركها بعد أن تبيّنت له تبعيّتها للسياسة الإنكليزيّة، ونشر كتاباته في صحف أخرى ومن ثمّ ساند ثورة الشريف حسين ضد العثمانيّين.
عندما نتحدث عن هذه الحقبة المهمة من تاريخ سورية ، فهذا يعني أننا ندخل في تفاصيل مرحلتين انتقاليتين من أعقد المراحل التاريخية التي عاشتها سورية، فقد غادر العثمانيون الأتراك سورية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وجاء الانتداب الفرنسي ليشكل احتلالا جديدا لسورية، وبين الأتراك والفرنسيين نما الحس المقاوم للاستعمار في نفوس السوريين وشكل رافعة لنهوض أرتال المفكرين والمثقفين من أجل الاستقلال والذين إن اختلفت مشاربهم فقد جمعهم حب سورية ورفض الاستعمار، وبين هاتين المرحلتين شارك الشهبندر في عام 1920 في الحكومة السورية التي ترأسها هاشم الأتاسي فتسلّم وزارة الخارجيّة السورية التي سقطت بدخول الفرنسيّين وفرضهم الانتداب على سوريّة ..
فكيف يقتل سياسي سوري في حقبة مهمة كتلك الحقبة ؟!
تلك حكاية الدكتور عبد الرحمن الشهبندر ..
دخل الدكتور الشهبندر جمعية الاتحاد والترقي بعد الدستور العثماني وناوأها عند اتجاهها إلى التتريك. تشبّع بفكرة الوحدة العربية واستقلال العرب ورأى الطريق إلى ذلك بالتعاون مع الحلفاء. توارى لدى نشوب الحرب العالمية الأولى، منفلتاً إلى العراق فالهند ومنها إلى مصر .. صنعت الأحداث المتتالية من الدكتور الشهبندر زعيما وطنيا عرفه السوريون مع قائمة كبيرة من الزعماء الذين عاصروا تلك الحقبة، ولم يطل غيابه عن بلاده إذ تجمعت أفكاره ومواقفه في رؤية واحدة هي مقاومة الفرنسيين، ففي تموز من عام 1924، عاد ليشارك في مقاومة الاحتلال الفرنسي إلى جانب الشعب السوري، وقد تجسد الشكل السياسي لهذه المشاركة الوطنية بتأسيس حزب سياسي هو حزب الشعب وتولّى رئاسته، وأطلق على الشهبندر أثناء ذاك لقب الزعيم الوطني.
عند انطلاق الثورة السورية الكبرى ضد الاستعمار الفرنسي عام 1925 كان الشهبندر من عداد ثوارها حتى قيل إنه كان العقل المدبر لهذه الثورة. فقد أهلته شخصيته العلمية المتنورة والمثقفة ليشغل المكانة التي تليق به في صفوف الثوار،وعرف عنه أنه واصل عمله بلا توقّف منذ بدايات القرن العشرين ولم يترك مجالاً لمحاولة التنوير والتأثير لم يطرق بابه، فقد عمل في الطب والسياسة والصحافة والتدريس والترجمة وجمع مقالاته في كتاب نشر بعنوان “القضايا العربية الكبرى”، وكان كتاب “مذكرات الشهبندر”، ثاني الكتب التي أصدرها، أي أنه أسهم في بلورة المشروع النهضوي التنويري . وتميّز الشهبندر بسياسته وأفكاره البعيدة عن العائلية والعشائرية والطائفية، وأسهم في خلق جو وطني واضح المعالم، ودافع عن المرأة لنيل حقوقها .
في أيّار عام 1937 عارض الدكتور الشهبندر المعاهدة السورية الفرنسية 1936. فأدخلته مواقفه في تعارضات كثيرة مع الاتجاهات السياسية في البلاد إلى أن جاء عام 1940 عندما قامت مجموعة إرهابية باغتياله في تلك العيادة في حي الشعلان الدمشقي ..
في صبيحة ذلك اليوم أي في السادس من تموز ـ يوليو من العام 1940، كان الدكتور الشهبندر في عيادته يعالج مجموعة من الفقراء طالبين المساعدة الطبية العاجلة لواحدٍ منهم، في تلك اللحظة أطلق عليه النار أحمد عصاصة فقتله برصاصة في الرأس..
كان حدثا مروعا في التاريخ الوطني السوري، وكان صفحة سوداء في تاريخ الحركة السياسية السورية، فقد عمت الاتهامات الشارع السياسي فألصقت التهم بزعماء الكتلة الوطنيّة: سعد الله الجابريّ وجميل مردم بك ولطفي الحفار الذين برأتهم المحكمة فيما بعد، وكادت البلاد أن تدخل في متاهة التشتت والتفرق إلا أنه تمّ القبض على الفاعلين واعترفوا بفعلتهم ..
في اليوم الثاني للجريمة، شيّعت أبناء دمشق جثمانه من الجامع الأموي، حيث أبّنه الكثيرون من السياسيين والعلماء والأدباء والشعراء وجماهير مريديه ودفن بجوار قبر صلاح الدين الأيوبي خلف الجامع الأموي.
في 9 كانون الأول 1940، بدأت محاكمة قتلة الدكتور عبد الرحمن الشهبندر بدمشق، وكانت المحاكمة في المجلس النيابي في شارع العابد، وهي المرة الأولى والأخيرة في تاريخ المجلس يتحول البناء من سلطة تشريعية الى سلطة قضائية.
قررت المحكمة إعدام المتهمين ومن بينهم أحمد عصاصة وإعلان براءة كل من سعد الله الجابري ولطفي الحفار، جميل مردم بك ومدير مكتبه عاصم النائلي. وفي الأرشيف الفرنسي مايزال ملف اغتيال الدكتور عبد الرحمن الشهبندر مغلقا في الأرشيف الوطني الفرنسي.
اعتبر المؤرخون السياسيون لتلك الحقبة أن اغتيال الشهبندر على يد تلك فئة منغلقة متزمتة إرهابا سياسيا وتحذيرا دمويا للمنادين بحرية الفكر العربي والداعين إلى العقلانية والعلمانية والتنوير، والسير بالمجتمع العربي خطوات إلى الأمام، في ميدان التقدم الحضاري..
أصدرت في حينه“جماعة الإصلاح الاجتماعي العربي” بدمشق، بياناً معبراً عن اغتيال الشهبندر وفيما يلي مقاطع من البيان : (أيها السوريون إن “جماعة الإصلاح الاجتماعي العربي” قد اهتمت بقصة اغتيال الشهبندر لأنه إذا صح أن التهوس الديني ساعد عليها، كان معنى ذلك أن العالم العربي يعيش في بؤرة من التقهقر الاجتماعي، وأن حرية الفكر في بلاد العرب أصبحت في خطر، وأن كل مفكر لا يستطيع التفوه بما يعود على الحضارة العربية بالتقدم) ويقول الباحث السوري شمس الدين العجلاني إن قضية اغتيال الشهبندر هي قضية من أشهر وأعقد الاغتيالات السياسية في سورية، ولم تحل خيوطها كافة ولم يزل يكتنفها الغموض، هزت حينها أركان المجتمع السوري والعربي بكل أطيافه وألوانه، ووضعت الحركة الوطنية السورية وزعماءها آنذاك في لائحة الاتهام، وغيبت عن الساحة الفكرية والسياسية والنضالية شخصية من أهم الشخصيات الوطنية التي كان بمقدورها تغيير مجرى الحياة السياسية لسورية.
ويضيف العجلاني :
تعتبر قضية اغتيال الشهبندر من القضايا الجنائية التي أخذت طابعاً سياسياً، بسبب موقف الشهبندر المعارض والشرس من الاستعمار الفرنسي ورموزه، وموقفه من المعاهدة الفرنسية ـ السورية عام 1936، وانتقاده لها بشدة متهماً رجالات الكتلة الوطنية بأنهم بالغوا بدعاياتهم حولها وخدعوا الشعب عن مطالبته الوطنية في السيادة الصحيحة والوحدة التامة. وكان من تداعيات اغتيال الشهبندر، استقالة رئيس الكتلة الوطنية، واستقالت الحكومة، وانشقاق الشارع السوري بسبب توجيه أصابع الاتهام إلى الكثيرين من السياسيين من رجالات الكتلة الوطنية، والتحقيق معهم وهرب بعضهم خارج سورية، وعلى الرغم من تبرئتهم في نهاية المطاف، مازالت الريبة تحوط سلامة التحقيق بالشكوك إلى الآن ومازالت الآراء تتضارب حول من هو القاتل وما هي دوافع هذه الجريمة هل هي دوافع دينية أم سياسية.!؟