جلال الدين الرومي.. «أيقونة» الغرب المحبّبة ومتصوّفه
في عصر تيّارات الشعر الحداثية وما بعد الحداثية، وفي الوقت الذي يتصدّر فيه شعراء مثل والت ويتمان، والاس ستيفنز، جون دون، إيميلي ديكسنون.. قوائم تفضيلات قراء الشعر في الغرب – إلى جانب بابلو نيرودا، ودانتي، وشكسبير بالطبع – قد يكون من المُستغرب معرفة أن المتصوف والشاعر جلال الدين الرومي، الأفغاني الأصل (1207 – 1273 م)، يُعَدّ أكثر الشعراء شعبية في الولايات المتحدة اليوم.
ترتبط الشعبية في أميركا بنسب المبيعات، فهناك ما ينوف عن الأربعين كتاباً عن الرومي باللغة الإنكليزية وحدها، منها ترجمات كاملة لمؤلفاته الأصلية «المثنوي» و«فيه ما فيه»، و«ديوان شمس التبريزي» المنقولة عن الفارسية. أما ما تبقى فهي مختارات شعرية لبعض قصائده ومواعظه، أو دراسات تبحث قضايا مختلفة مثل أسباب شعبيته في الغرب وعلاقته بالإسلام.
الشعرية الضيقة
وبالرغم من أن بعض أشعار الرومي تُرجمت منذ زمنٍ طويل إلى الإنكليزية، إلا أن تداولها ظلّ مقتصراً على الجامعات والأوساط الشعرية الضيقة حتى عام 1976 حينما أعطى الشاعر روبرت بيلي، المترجم كولمان باركس – أحد أشهري مترجمي مؤلفات الرومي – كتاباً لأشعار الرومي صادراً عن جامعة كامبردج، قائلاً له: «ينبغي إخراج هذه القصائد من أقفاصها». بدأت عندها محاولة إعادة ترجمة القصائد وتحريرها من صيغتها الأكاديمية الجامدة لتغدو أقرب إلى طراز الشعر الأميركي الحرّ. إعادة الترجمة، أو إعادة القراءة تلك، لعبت دوراً جوهرياً في الشعبية التي وصلت إليها أشعار الرومي اليوم، وقد غذّى ذلك بالطبع المناخ السائد منذ أحداث 11 أيلول إلى اليوم، والذي جعل الأنظار تتجه نحو الثقافات المشرقية، بتوجس يكتنفه الفضول.
يمكن أيضاً فهم خصوصية الرومي بالوقوف على المقولات التي تتضمّنها أشعاره المستوحاة بمعظمها من تجربة انفصاله عن شمس التبريزي معلّمه وملهمه. يُنظر إلى قصائده اليوم باعتبارها تتجاوز حواجز الزمن والمكان والحضارات، فالرومي كان يرى نفسه، مسلماً، ومسيحياً، ويهودياً وزردشتياً، في الوقت عينه. هذا إلى جانب الصبغة التعليمية الممزوجة أحياناً بحسّ الفكاهة والتي يمكن تلمّسها في بعض قصصه وأشعاره.
ربما يمثّل الرومي في نظر الأميركيين أيقونة للمتصوّف المنفتح، «المَرضيّ عنه»، فهو الذي صمّم رقصة المولوية الفريدة، وأدخل الأغاني والرقصات إلى الشعائر الدينية، جاعلاً من التصوّف علماً ومنهج حياة. كل ذلك جاء متوافقاً مع حالة «انفجار الاهتمام بالروحانيات» كرد فعلٍ على النزعة المادية، والانغماس بالعمل، ومشاعر الانعزالية والوحدة وغياب المعنى. بصورة أو أخرى، تتبنّى الثقافة الغربية الرومي، وتُظهر تقديراً لخصوصيته وتفرده، وتفهماً أكبر للصلة التي جمعته مع معلمه، شمس الدين التبريزي، حيث يبدو أن جلال الدين الرومي كان يمتلك كل ما يطلبه الغرب كي يصبح «شيخ الطريقة المحبّب»، و«درويشاً لا عنفياً» ينبغي تظهيره كرمزٍ في الحرب ضد الإرهاب.
وجهان متناقضان
وللمفارقة، ينشغل الغرب اليوم بكلّ من حسن الصبّاح، وجلال الدين الرومي بالدرجة ذاتها ربما. الأول بنظرهم واضع بذور الفكر الإرهابي وعمليات الاغتيال المُنظّم، والثاني متصوّف منفتح يدعو للجهاد الداخلي بدلاً من الخارجي ضد الكفّار. كما لو أن في النموذجيْن – الرومي والصبّاح – ما يُغذّي الخيال الغربي ويتوافق مع فكرة الاستقطاب بين قطبين: خيّر وشرير.
هذا وقد ساعدت رواية «قواعد العشق الأربعون» لكاتبتها التركية إليف شفق، التي صدرت في أميركا عام 2010، وترجمت إلى العربية عام 2012، على فهم بعض مناحي الاهتمام الغربي بالمتصوف الرومي. فشعبية الرواية إلى اليوم لا تقلّ عن شعبية أبطالها: الرومي وشمس التبريزي، وهي أيضاً مثار استغراب. العمل الأدبي يقيم مقارنة صريحة لأوجه الشبه بين القرن الثالث عشر، والعصر الحالي، تحديداً في ما يتعلق بالصراع بين الانفتاح والانغلاق، قبول الآخر والتعصب، التصوف والإرهاب. من ناحية أخرى، تبدو قواعد العشق الأربعين، التي يسنّها شمس الدين التبريزي في الرواية – والتي تتقاطع بصورة كبيرة مع المواعظ التي يقدمها الرومي في كتابه المثنوي – تبدو تلك القواعد أقرب إلى خطوات تحفيز التفكير الإيجابي، حينما يبدو أن حل المشكلات، وإيجاد الإجابات الشافية عن جميع الأسئلة المؤرقة، يكمن داخل كل شخص. تصدير الفكر الصوفي بتلك الصورة يجعله أكثر قرباً من الإنسان الغربي، وإن كان يأتي ذلك على حساب عمق التلقيّ، الذي يعين في فهم السياق الذي جعل من وجود شخصية مثل الرومي أمراً ممكناً في العالم الإسلامي في تلك الحقبة، وليس مجرد طفرة.
يعتبر بعض النقّاد، أن هناك مبالغة في تقدير تأثير الرومي على القراء الأميركيين، فبالرغم من أنه قد يكون الأكثر مبيعاً، لكنه ليس الأكثر تأثيراً، إذ يرون أن شعبيته ظرفية، مرتبطة بالحرب ضد الإرهاب، وهواجس البحث عن إجابات روحانية لمشكلات شديدة المادية. لكن سواء كانت شعبية الرومي في أميركا اليوم أصيلة أم طارئة، فالمؤكد أنها مغلّفة بنظرة استشراقية، للمتصوف «المرضي» عنه.
صحيفة السفير اللبنانية