مساوئ دونالد ترامب..هل تكون سبباً في نجاحه؟

وَصلتْ إلى بريدي الإلكتروني، في الخامس من شهر أيلول (سبتمبر) 2016، رسالة تتضمّن دعوةً للاحتفال بنخب النّجاح المُقبل “لنائب الرئيس الأميركي الجديد”، تيم كين. وقد تراوحت أسعار البطاقات لحضور حفل هذا النخب، الذي يصاحبه عشاءٌ تكريميّ يتيح الفرصة للمتبرّعين بأثمان البطاقات، للقاء كين والتحدّث إليه عن قرب، بين 45 إلى 200 دولار. ليس من الغرابة، بالطبع، أن يتمّ عقد هكذا لقاءات لجَمْع التبرّعات للحملات الانتخابية الرئاسية، وهي في صميم احتدامها بين الديمقراطية هيلاري كلينتون الجمهوري دونالد ترامب.

اللّافت والمُثير للاستغراب، أن يحملَ السيّد تيم كين في نصّ الدعوة لَقَب “نائب رئيس الولايات المتّحدة”، وهو لم يتمّ انتخابه بعد، في مخالفةٍ فجّة لكلّ القِيم والتقاليد الانتخابية الديمقراطية المتعارَف عليها في الولايات المتّحدة! حتّى ولو جاء الأمر مجازاً، إلّا أنّه يستفزّ النّاخب الأميركي، ويتجاوز صوته الانتخابيّ الذي هو حقّ دستوريّ مُقدَّس بالنسبة إليه.

حَملتني تلك الرسالة بالذاكرة إلى العام 2008 في صباح يوم انتخابات الرئاسة الأميركية، الذي أقرّه المشرّعون في الولايات المتّحدة الأميركية في ثلاثاء الأسبوع الأوّل من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) لكلّ أربعة أعوام، والذي صادف ذاك العام الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) 2008. أيقظتني يومها رسالة هاتفية قصيرة، إس. أم. إس، تلقيّتها على هاتفي المحمول بالإنكليزية A great day in America. It is time for Obama.، تقول ما معناه: “هذا يوم عظيم لأميركا، إنّه زمن أوباما”! دواعي الاستغراب والامتعاض اللذَين اعترياني في ذلك الصباح، يندرجان تحت عنوانَين: أوّلهما، هو فعل اختراق “خصوصية المعلومات” للمواطنين الأميركيّين، والحصول على قائمة طويلة من أرقام الهواتف المحمولة الخاصّة، كان رقم هاتفي المحمول أحد ضحاياها، وإرسال رسالة قصيرة لها علاقة بانتخاب مرشّح حكومي أميركي، مهما علا شأن منصبه، وهذا تصرّف ينطوي على كثيرٍ من النزعة الشمولية واللّامسؤولية السياسية، من مُعسكَر الحَملة الانتخابية لمرشَّح الحزب الديمقراطي في ذلك الوقت، والرئيس المُنتخَب الحالي، باراك حسين أوباما.

والعنوان الثاني يتعلّق باختراق “الخصوصية المنزلية”، بما يتناقض مع المزاج الأميركي، والذي يَضَع عُرفاً أخلاقياً مُتداوَلاً، يتعلّق باحترام خصوصية الأشخاص في ساعات الصباح المبكّرة والمساء المتأخّرة، وعدم الاتّصال بهم، إلّا في حالات الطوارئ والضرورات القصوى، أو في حال كون المتّصل من الأصدقاء أو أفراد العائلة المُقرَّبين جدّاً.

وما سردي لتلك الحادثتَين، المُتقاربتَين في النَّهج والمُفترقتَين في الزمن، بعمر 8 سنوات من حُكم باراك أوباما لولايتَيْن رئاسيّتَين مُتتاليتَين، إلّا مناسبة لأُفسّر بعض الظواهر التي اعترت الحالة السياسية في الولايات المتّحدة، في العقد الأخير، والتي أدّت إلى أن يجِد الناخب الأميركي في مرشّح الحزب الجمهوري ـــ على عيوب تصريحاته وانتهاكاتها وضحالة خبرته في الحقل السياسي ـــ أهون الشرّين بعدما ثبَت بالفعل، وليس بالقول أنّ الرئيس باراك أوباما كان حريصاً في سنواته الثماني في الحُكم، على بناء إرث عائلته السياسي حصراً، وتلميع صورته، كأوّل رئيس أميركي من أصل إفريقي يصل إلى الرئاسة في بدايات القرن الحادي والعشرين، وليس إرث الأميركيّين وتاريخ البيت الأبيض.

فحين اعتلى رئيس مجلس النوّاب الأميركي، بول رايان، المنبر ليدعم ترشيح رجل الأعمال دونالد ترامب عن الحزب الجمهوري الأميركي للمنافسة على كرسيّ المكتب البيضاوي للبيت الأبيض في الانتخابات الرئاسية 2016، كان الحضور، وملايين المتابعين لمؤتمر الحزب الجمهوري الذي انعقد مؤخّراً في مدينة كليفلاند – ولاية أوهايو، يتابعون بدقّة كيف سيتخلّى رايان عن موقفه المتشدّد حيال ترامب، وامتناعه لأشهُر عن تأييده. قبول رايان، وهو الرجل الأقوى في الحزب الجمهوري، دَعْم ترشيح ترامب ممثّلاً عن الحزب، أعطى الحملة الانتخابية ومؤتمر الحزب العامّ زخماً لا يُضاهى، وجَعَل ترامب يتقدّم على منافسته هيلاري كلينتون في استطلاع الرأي الذي أجرته جريدة نيويورك تايمز مباشرة إثر انتهاء المؤتمر بفارق ثلاث نقاط مئوية.

كان رايان حتّى اللحظات الأخيرة من انطلاق المؤتمر، الذي من المفترض أن يُسمّي مرشّح الحزب الجمهوري لسباق الرئاسة، عازفاً عن القبول بترامب كمرشّح للحزب. وكان يُبرّر رفضه ذاك بأسباب عدّة يراها العديد من قيادات الحزب الجمهوري جوهرية. فمعظمهم لا يَرَوْن دونالد ترامب الشخصية السياسية التي تحمل معايير الحزب وقيمه التي أسَّس لها رؤساء عظام، مثل إبراهام لنكولن ورونالد ريغان. وكان رايان قد انتقد بشدّة مقترح ترامب لمَنْع المسلمين من دخول الولايات المتّحدة وصرّح بشكل قويّ “ليس ما قاله ترامب هو ما يدعو إليه هذا الحزب، والأكثر أهمّية، ليس ما تقبله هذه البلاد”. كما كان رايان من أشدّ الساخرين من فكرة ترامب وخططه المُعلَنة لبناء جدار إسمنتيّ عازل على امتداد حدود الولايات المتّحدة الجنوبية مع المكسيك، وقد أتبع هذه الخطط بنيّته ترحيل أحد عشر مليون فردٍ من المهاجرين الذين لم يحصلوا على وثائق رسمية تخوّلهم الإقامة القانونية في البلاد. هذا ناهيك بأنّ قيادات في الحزب الجمهوري وكبار الشخصيات فيه، قاطعت المؤتمر، ومنها بوش الأب والابن، وجون ماكين، وميت رومني. أمّا تيد كروز الذي كان يُنافس دونالد ترامب في الترشّح عن الحزب للرئاسة، فضرب ضربته الكبرى في المؤتمر حين ألقى خطاباً امتنع فيه عن تأييد ترشيح منافسه بين تعالي أصوات مئات المحتجّين في القاعة الواسعة من مؤيّدي ترامب.

وعلى الرّغم من كلّ هذه الأضداد التي أنتجتها مواقف ترامب وتصريحاته التي أقلّ ما يصنّفها المراقبون بأنّها شعبوية، متسرّعة، متغطرسة، وتنمّ عن جهل سياسي؛ إلّا أنّ ترامب القادم بقوّة إلى المعركة الانتخابية الرئاسية الأشدّ سخونة في التاريخ الأميركي، استطاع أن يخترق البيت السياسي للحزب الجمهوري العريق، وأن يحوز على ترشيح الحزب له لخوض المعركة أمام المرشَّحة الديمقراطية التي سجّلها التاريخ أيضاً، كأوّل امرأة في التاريخ الأميركي تكسب ترشيح حزبٍ بحجم الديمقراطي للرئاسة: السيّدة هيلاري كلينتون.

وتكاد تكون أهمّ عوامل ترشيح الجمهوريّين لترامب هي مساوئه عينها التي اعترضوا عليها، فتلك المساوئ ستُشكّل برأي بعضهم استنفاراً وتحفيزاً للشارع الأميركي من أجل أن يخرج إلى الإدلاء بصوته، ولاسيّما تلك الأعداد الهائلة من الناخبين الصامتين و المتأرجحين منهم، من أجل “منع فوز باراك أوباما في ولاية ثالثة” وهي العبارة الشائعة الآن في الأوساط السياسية والإعلامية الأميركية، ويُقصد بها بطبيعة الحال أنّ فوز هيلاري كلينتون في حالة حدوثه، سيمثّل استمراراً لنَهج أوباما في ولايتَيه الرئاسيّتَين من القيادة من الخلف، وهي الاستراتيجية التي اعتمدها في علاقاته مع العالم الخارجي وتطوّرات الأحداث فيه. وحتّى الذين يرون في ترامب شخصية لا تُلائم الكُرسيّ الرئاسي، فإنّهم في المقابل، لا يجدون في كلينتون الشخصية الموثوقة التي يمكن أن تحمل هذه المرحلة المُقبلة بمخاطرها على أمن دول العالم الذي يسير في الحقيقة بسفينة بلا ربّان واستقراره، أو في أحسن تقدير بقيادة قرصان يرفع العَلم الروسي على مَتن السفينة!

استدعاء المشاعِر القوميّة

فترامب الذي يستدعي المشاعر القومية لرجل الشارع الأميركي الأبيض الحزين لتراجع موقع الولايات المتّحدة والشعب الأميركي بصورة عامّة في سلّم القوى العالمية المؤثّرة، وترامب الذي يثير شهيّة طبقة الشباب وأصحاب الأعمال الصغيرة، وكذا الطبقة المتوسّطة من خلال برنامجه لتأمين وظائف لكلّ صاحب خبرة واختصاص وإعادة الأعمال المهاجرة التي يستفيد منها العمّال الأجانب إلى الولايات المتّحدة ويُحرَم منها أبناء البلد، وترامب الذي سيعيد بناء الجيش الأميركي الذي قام أوباما بخفْض ميزانية تدريبه وتسليحه غير مرّة وسيعيد أميركا إلى قوّتها وبأسها في العالم وإلى “المقدّمة في القيادة”، بعكس الحال في عهدَي أوباما، كلّ هذه الأمور مجتمعة يَسّرت له الوصول إلى سدّة ترشيح الحزب، هذا إذا لم نتحدّث عن تهديده للجمهوريّين أنّه سيدخل المعركة الانتخابية مستقلّاً، إذا ما امتنع الحزب عن ترشيحه، والتي ستعني حتماً خسارة الجمهوريّين في استعادة البيت الأبيض من الديمقراطيين، وستعني فوز هيلاري كلينتون بالرئاسة لأربع سنوات مُضافة إلى ثماني سنوات من حُكم باراك أوباما الذي اتّخذ مسلكاً سياسياً يستعيض عن الحكم الدستوري بسلطة رئاسية شبه مطلقة مدعومة بقوّة قضائية نافذة، وستكون مهمّة كلينتون مَأسَسَة التجاوزات الدستوريّة، والسياسيّة الاستراتيجيّة، التي وقعت في السنوات الثماني الماضية من عمر التاريخ الأميركي التي يجدها الجمهوريون سنوات عجافاً، وتكريسها.

جدير بالذّكر أنّ تركة أوباما السياسية ارتبطت ارتباطاً عضوياً بظهور أكثر المنظّمات الإرهابية توحّشاً في العالم، وهي “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” ، وقد اتّخذت من سوريا مقرّاً أساساً لها، وهي الأرض التي تخلّى أوباما عن الانتصار لشعبها سنوات قبل ظهور ذاك التطرّف العُنفيّ المنظَّم الذي لم يكن ليظهر وينمو إلّا في بيئة مؤاتية من العنف المضادّ، والاستبداد السياسي، وإرهاب الدولة، الذي مارسه النّظام السوري على شعبه تحت خطّ أوباما الأحمر!

نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى