حقب من تاريخ دمشق … من الفتح الإسلامي إلى سايكس – بيكو
الإحاطة بطبوغرافية دمشق المدينة القديمة والتعمق في درس تاريخها يحتاجان وحدهما إلى مجلد. هذا ما ذكره الدكتور «إدوارد روبنصون» الذي زار فلسطين والأقاليم المجاورة في الأعوام بين 1838 و1852 وترك لنا كتاب «يوميات في لبنان تاريخ وجغرافيا» وهو بحث توراتي عن فلسطين والأقاليم المجاورة بما فيها سورية ولبنان.
إنّ الزمن الذي ظهرت فيه دمشق على المسرح العالمي متغلغل في القدم وضائع وراء أطلال كثيفة من الأجيال البعيدة المتراكمة. فقد سبقت زمن النبي إبراهيم في الشهرة، ربما تكون الآن المدينة الوحيدة التي كانت معروفة في ذلك العصر البعيد ولا تزال آهلة بالسكان ومزدهرة، لقد توارى ذكر دمشق في بطون التاريخ حتى عهد النبي داوود. ففي ذلك العهد كانت سورية مقسمة إلى عدة رئاسات أو دويلات صغيرة. وكانت دمشق عاصمة الملك، ففي الحرب التي أثارها داوود على ملك صوبة انتصر «سوريو دمشق» لهذا الأخير. فأخضعهم داوود وأقام حرساً في بلادهم، ولكن دمشق ما لبثت أن خلعت عنها النير في عهد سليمان.
وفي العهد الأشوري استولى «تغلب فلاسر» على دمشق، فذبح رصين ملكها، وقام بسبي سكانها إلى قبر. وهكذا في العام 740 ق.م، أصبحت سورية بكاملها ولاية للإمبراطورية الآشورية. وذكر «أرميا» دمشق، كما ذكرها «حزقايل» مرة واحدة مدة السبي لعلاقتها التجارية مع صور، وذكرها «زكريا» مرة بعد السبي.
في العام 633 م حاصرها جيشان من الجيوش الإسلامية أحدهما تحت إمرة خالد بن الوليد، ونزل به على الباب الشرقي، والآخر تحت إمرة أبي عبيدة، ونزل به على باب الجابية ومجموع الجيشين 47500 جندياً. فاشتد الرعب على أهل دمشق فأمر خالد بالزحف عليها وأقام المسلمون على حصارها عشرين يوماً إلى أن أتاهم الخبر باجتماع الروم بأجنادين فبعثوا لمقاتلتهم أولاً بخمسة آلاف فارس ثم كثُر اجتماعهم فذهبوا إليهم جميعاً.
ولما علم بذلك الدمشقيون خرجوا في أثرهم واقتطعوا قطعة من المال والحريم ورجع بها أحد قوادهم، وبقي الآخر، فقاتلهم وضايق أبا عبيدة إلى أن أنجده خالد بن الوليد، وكان في المقدمة فردوهم وبعد أن قاتل المسلمون الروم في أجنادين انتصروا عليهم وشدوا الحصار على دمشق فتضايق أهلها وطلبوا المهل من خالد بن الوليد فأبى، فطلبوه من أبي عبيدة فأمنهم وحضر إليه مئة من رؤسائهم ودخل المدينة معهم بعد أن أجابهم إلى طلبات توافق الشريعة المحمدية. أما خالد بن الوليد، فقد تغلب على المحاصرين في الباب الشرقي، ودخل المدينة عنوة.
في هذه المدة اختير معاوية بن أبي سفيان عليها، وكانت مدة إمارته 20 سنة وفي عام 41 للهجرة بايعه الناس وكان مؤسساً للدولة الأموية التي جعلت دمشق قاعدة الممالك الإسلامية، وظلت كذلك إلى سنة 132 هجرية أي من سنة 661 إلى سنة 749 م.
في رمضان سنة 132 هجرية حضر إلى دمشق عبد الله بن علي القائد السفاح وأخضعها عنوة بعد أن أوقع بعساكر مروان الثاني آخر خلفاء بني أمية، ولما خلف المنصور أبا العباس، ادعى عبد الله بن علي الحاكمية على دمشق، فتغلب المنصور عليه، واستعمل على الشام غيره.
وفي سنة 176 هـ وقعت فتنة فيها بين المضرية واليمنية استمرت أربع سنوات، وبعد خمود نيرانها ضمت إلى ولاية مصر، في سنة 227 هـ عاث القيسيون فيها وأفسدوا، فتصدى لهم الخليفة العباسي الواثق وقتل منهم 1500 وجاءها المتوكل سنة 243 هـ ونقل دواوينه إليها، ولكنه استوبأها واستثقل ماءها فرحل عنها بعد أن أقام فيها شهرين وأياماً. في سنة 327 هـ استبد بها ابن رائف فقاتله عليها الأخشيد.
وبعد حروب استقرت الشام لابن رائف، وفي سنة 333 هـ حمل عليها سيف الدولة الحمداني وحاصرها وارتد عنها ثم استولى عليها لما حكمها كافور بالوكالة عن أبي القاسم محمد بن الأخشيد. ثم أخرجه أهلها لطمعه بالغوطة وجعلوا كافوراً ولياً عليهم، فاستولى على دمشق بدر الأخشيدي. ومات كافور سنة 357 هـ وخلفه أبو الفوارس بن علي بن الأخشيد.
وفي السنة الثانية من ولايته سير المقر العلوي جيشاً كبيراً عليه جعفر بن قلاج فظفر بالمدينة ونهب بعضها. وجاءها القرامطة سنة 360 هـ وقتلوا جعفراً في ظاهر المدينة واستولوا عليها. وفي سنة 362 هـ ظفر المقر لدين الله بالقرامطة. وفي سنة 365 هـ وافق أهلها أفتكين أحد موالي عز الدولة على رفع ربقة أميرهم، فتغلب على عساكر العزيز بانضمام القرامطة إليه.
وفي العام 1148 م هاجم الصليبيون دمشق بقيادة ثلاثة ملوك هم: بولدوين وكونراد ولويس السابع فأنجد واليها سيف الدين غازي صاحب الموصل، وهكذا أحبطت مساعي الصليبيين، وارتدوا عنها بعد أن كانوا مؤملين بأن يملكوا البلاد بامتلاكها. في العام 1550 م خشي نور الدين صاحب حلب نفوذ الصليبيين في دمشق وأن يملكوها، فاستمال أهلها سراً وحاصرها ففتحوا له الباب الشرقي فدخلها وولي عليها أخوه نجم الدين أيوب الذي شاد المدارس وروج العلم. وخلفه بعد وفاته ابنه الصالح إسماعيل فأطاعه صلاح الدين الأيوبي بمصر. ولما سار إلى حلب وكان أميرها منفياً عن حكومته خانه أمراء دمشق فدعوا صلاح الدين إلى امتلاكهم فأجابهم واستولى على المدينة دون القلعة ثم فتح البلاد وصالحه الصالح إسماعيل على أن يكون الذي فتحه في يده فأبى إلا أن تكون الخطبة والسكة باسمه وهكذا تم…
في الثلاثين من أيلول (سبتمبر) 1918، انتهى عهد الحكم التركي في دمشق، ذلك الحكم الذي استمر مدة أربعمئة سنة. ففي عصر ذلك اليوم رفع العلم العربي على سارية فوق مبنى البلدية. وكان ذلك العلم «علم التحرير العربي» وكانت ألوانه الأسود والأخضر والأبيض ويشمل الألوان الثلاثة مثلث أحمر وعند منتصف الليل كان «فيلق فرسان الصحراء» التابع لجيش الجنرال اللنبي، على أبواب المدينة، وفي الساعة السادسة من صباح أول تشرين الأول (أكتوبر) احتل الفوج العاشر للخيالة الأسترالية مدينة دمشق وفي أعقابه دخل جيش الأمير فيصل بقيادة نوري باشا السعيد. يقول الجنرال ل.ك ويلسون القائد الثالث للخيالة، في تقريره أن الرائد أولدن قائد طليعة الفوج العاشر للخيالة الأوسترالية لما دخل دمشق وصل أمام مبنى البلدية فدخلها ووجد الأمير سعيد الجزائري (وهو أحد أحفاد الأمير عبد القادر الجزائري الذائع الصيت) على رأس لجنة مدعياً أن القائد التركي جمال باشا كان قد عينه حاكماً على دمشق قبل مغادرته هذه المدينة عصر اليوم الفائت، وكان الأمير محاطاً بجماعة كبيرة من الأعيان والوجهاء فقام الأمير وسلم على الرائد قائلاً بواسطة المترجم: «باسم أهالي دمشق أرحب بالجيش الإنكليزي»، وبعد مدة وجيزة اجتاز أولدن المدينة مع فوجه وأكمل زحفه مع بقية الجيوش الأسترالية والبريطانية عن طريق حمص، حماة حلب.
أما لورنس فقد غضب غضباً شديداً لأنه كان كثير الرغبة في أن يحتل الجيش العربي دمشق أولاً إذا تم مثل هذا الأمر فإن مكانة فيصل في سورية والعالم العربي ستزداد بصفته منقذ العرب من نير الحكم التركي.
ليس هذا فحسب بل إن الفرنسيين الذين كان لورنس يضمر لهم بغضاً شديداً كان يذكر «تصريح الحكومة البريطانية للعرب السبعة» الذي أعلنت فيه بريطانيا أنها تعترف «بسيادة واستقلال» الذين يقطنون «الأراضي التي تتحرر من السيطرة التركية بعمل العرب أنفسهم» ولذا فقد كان أول عمل قام به لورنس عند دخوله الشام في اليوم الأول من تشرين الأول عزل الأمير سعيد الجزائري، «كرئيس للحكومة العربية» التي كان قد شكلها قبل دخول جيش الحلفاء، بعد اجتماع صاخب، وتعيينه شكري باشا الأيوبي (في غياب علي رضا باشا الركابي) حاكماً عسكرياً لدمشق وأنشئت إدارة عربية موقتة شرعت فوراً في إحلال النظام والقانون في المدينة.
ومن جملة ما اتخذته من إجراءات فرض حظر التجول من غياب الشمس حتى شروقها، وذلك لمنع النهب والسلب في أسواق المدينة ومخازنها. وكذلك تشكلت حكومة عربية في بيروت برئاسة رئيس بلديتها عمر بك الداعوق، وذلك في اليوم الأول من تشرين الأول. وكان الأتراك انسحبوا من بيروت في الثلاثين من أيلول، وفي اليوم ذاته تلقى عمر بك الداعوق برقية من الأمير سعيد من دمشق أعلمه فيها أن حكومة عربية هاشمية تأسست في دمشق بعد انسحاب الأتراك طالباً إليه أن يشكل إدارة عربية في بيروت باسم تلك الحكومة الهاشمية التي تأسست في دمشق.
في هذه الأثناء، وفي اليوم الثالث من تشرين الأول، دخل الأمير فيصل مدينة دمشق دخول الظافر ممتطياً جواداً عربياً على رأس قوة عسكرية قوامها 1500 فارس عربي وسط أهازيج الحماسة والابتهاج، وكان قبل ذلك بيوم واحد قد خلت ألوف من المشاة والخيالة البريطانيين والأستراليين والنيوزيلنديين والهنود مع فرقة صغيرة من الجنود الفرنسيين والمغاربة، وسارت في موكب مخترقة المدينة وهي في طريقها باتجاه الشمال لتعقب الجيش التركي المنسحب.
لكن اليوم التاريخي البارز، كان يوم الثالث من تشرين الأول، فقد كانت دمشق في نظر الأمير فيصل، وفي نظر أبيه حسين، شريف مكة، نهاية مطامح العرب الوطنيين، وكان احتلالها يشكل تحقيقاً، ولو جزئياً، لأمانيهم في الاستقلال وفي إنشاء أمبراطورية عربية. لكن صدمة عنيفة كانت بانتظار فيصل، على رغم أنه يصعب القول إلى أي مدى كانت مفاجأة غير متوقعة، لأن الجنرال اللنبي، القائد العام للحملة البريطانية، كان في ذلك اليوم أيضاً يسرع في سيره لبلوغ دمشق، وهو مضطرب الخاطر قلق بسبب أخبار خطيرة كان قد تلقاها من سورية. وكان المصدر الرئيسي لاضطراب خاطره تلقيه أخباراً من مركز القيادة العامة في بير سالم، ومن المفوض السامي البريطاني في مصر، ومن القنصل الفرنسي في القاهرة، ومن جورج بيكو، ولا سيما تلك الرسائل التي تلقاها من الوزارة الحربية ومن الوزارة الخارجية.
ويقول معاصر للأحداث في هذا الاطلاع أن النغم السائد في جميع هذه الرسائل كان ما مؤداه «اخنقوا حركة فيصل في مهدها. أوقفوا السيل العربي، تذكروا اتفاقية سايكس-بيكو»… دخل اللنبي مدينة دمشق يوم الثالث من تشرين الأول واستدعى فوراً الأمير فيصل، وجرت المقابلة في قاعة الاستقبالات في فندق فيكتوريا، وكانت المرة الأولى التي يتقابل فيها الرجلان ويقول السير «أرتشيبولدوايفل» أن الرجلين كانا على طرفي نقيض «فقد كان اللنبي يمثل الرجل الإنكليزي الضخم البنية الذي يثق بنفسه والذي يألف السيطرة وإصدار الأوامر، وذلك بقوة شخصيته، بينما كان الأمير فيصل يمثل الرجل العربي النحيل البسيط الزاهد ولكن تبدو عليه سيماء الإمارة، وقد اتسمت المقابلة بشيء من الحدة والصخب وحضر المقابلة لورانس وقد أوضح اللنبي أن الحرب لم تنته بعد، وأن الأرض التي احتلتها الجيوش تحت إمرته تعتبر «أرض العدو» وفي الوقت الحاضر تعتبر بريطانيا نفسها مسؤولة عن إدارة هذه المناطق المحتلة.
ومهما يكن من أمر، وبحسب اتفاقية عقدت مع الفرنسيين، فإنه تلقى تعليمات بالسماح للفرنسيين بتولي شؤون الإدارة في المنطقة «الزرقاء» التي تمثل سورية غرب دمشق وحلب، والتي تشمل مدينة بيروت ولبنان، أما لورانس فقد اعترف قائلاً أنه أوفد عن حسن نية شكري باشا ليتسلم أمر الإدارة في بيروت باسم ملك الحجاز، الملك حسين، الذي يعتبر سورية بأكملها ملكاً له. وأضاف أنه يدرك أن أية حقوق تمارسها فرنسا في سورية ستكون لها نتائج خطيرة. فأجاب الجنرال اللنبي بحدة قائلاً أن هذه الأمور لا شأن للورانس أن يتدخل فيها. وقال أنه لم يكن مطلوباً منه قط احتلال الشاطئ، إنما له أن يذهب إلى بريطانيا فيشرح الوضع لوزارة الخارجية.
أما مهمة القائد الأعلى فهي تنفيذ التعليمات التي تلقاها والقيام بالارتباطات التي تجد بريطانيا نفسها مرتبطة بها. ثم التفت اللنبي إلى الأمير فيصل وشرح له أن المنطقة «أ» المشار إليها في تلك الاتفاقية مع فرنسا والتي تضم دمشق وحمص وحماة وحلب فإن فرنسا ستكون الدولة الحامية لها، ولكن فرنسا قطعت عهداً على نفسها أن تساند قيام دولة عربية مستقلة. وانتهت هذه المقابلة، ويقال أن لورانس، بعد مغادرة فيصل المكان، قال للجنرال اللنبي أنه لا يستطيع أن يوافق على وجود ضابط ارتباط فرنسي، وسأل الجنرال اللنبي أن يعطيه إجازة. فلبى اللنبي الطلب ومنحه إجازة فغادر دمشق في اليوم التالي.
وهكذا برزت اتفاقية سايكس- بيكو من الخفاء لترمي بظلال التشاؤم والريبة، لتخيم فوق الجو المضمخ بالآمال الذي كان يعيشه الملك حسين والوطنيون العرب. وحدث الصدام المحتم بين الحلفاء في وقت لم يكونوا في وضع يمكنهم من تحمل عواقبه. وكان لورانس قد توقع رد الفعل الذي شعر به فيصل فكتب عند بدء الحرب يقول: «لم يكن لدينا من رجل نقبل به حليفاً، رجل ينتسب إلى عائلة تاريخية وله أتباع محاربون سوى سني، كالأمير فيصل، مدعياً إعادة أمجاد الأمويين والأيوبيين فهو قد يستطيع موقتاً أن يوحد الرجال في الأجزاء الداخلية من البلاد حتى إحراز النصر عندما يصبح بالإمكان تحويل حماستهم المنغمسة في الملذات الحسية إلى خدمة حكومة منظمة. ثم يأتي دور رد الفعل، ولكن بعد إحراز النصر، وفي سبيل النصر يمكن أن نقامر بكل شيء، مادياً كان أم خُلُقياً»…
في الخامس من تشرين الأول شكل الأمير فيصل «حكومة عسكرية عربية» في دمشق لسورية، وذلك بمعرفة من الجنرال اللنبي وبترخيص منه. ثم إنه أصدر أول بيان رسمي له موجهاً إياه إلى الشعب السوري. في هذا البيان شكر فيصل السوريين لاستقبالهم الودي الحار «لجيوشنا الظافرة» ولحسن «ولائهم لمولانا السلطان أمير المؤمنين الشريف حسين»، ثم أعلن بعد ذلك تشكيل «حكومة دستورية» في سورية «مستقلة استقلالاً تاماً ناجزاً باسم مولانا السلطان حسين» وعين علي رضا باشا الركابي رئيساً لتلك الحكومة. ولكي يخفف من مخاوف المسيحيين وسائر الأقليات في سورية، أنهى فيصل بيانه هذا، بتشديده في القول أن حكومته عربية تقوم على أساس العدل والمساواة بين جميع العرب الذين سيتمتعون بالحقوق ذاتها سواء أكانوا مسلمين أم نصارى أم يهوداً.
صحيفة الحياة اللندنية