سليمان العطار يترجم الرواية التي حملت صاحبها إلى نوبل

يقدم المترجم د. سليمان العطار أستاذ الأدب الأندلسي بكلية الآداب بجامعة القاهرة لرواية “خلية النحل.. طرق ضالة” للروائي الأسباني كاميلو خوسيه ثيلا الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1989 في طبعتها الجديدة الصادرة أخيرا عن دار آفاق، بما يطلق عليه “تقرير عن سيرة رواية” مفتتحا بأهم تقرير نقدي كتب عنها، وهو ذلك التقرير الذي كتبه الرقيب وبناء عليه رفض نشرها، حيث تتحدث الرواية عن اضطهاد فرانكوا للثوار في ظل اليمين المتطرف في إسبانيا.

يقول: قد يأخذ القارئ هذا الوصف “أهم تقرير نقدي” بشيء من الاستهانة عندما يعرف من كتبه، إنه ب. أندريس لوكاس دي كاسلا، ممثل الرقابة على المصنفات الأدبية في الأربعينيات، حيث البدايات الأولى لديكتاتورية فرانكو، وكما أن للنقد أصولا يرجع إليها فإن تقرير الرقيب النقدي ليس إلا إجابة عن أسئلة في نموذج مكرر ملزم لكل رقيب، ومن خصائص الديكتاتورية آلية القولبة وقدرية النماذج التي يدخلها الجميع: الإنسان والأشياء دون تفرقة، النموذج الرقابي يطرح الأسئلة الآتية والرقيب يلقي بالإجابات التي تليها بعد قراءته للعمل:

* هل تهاجم الرواية العقيدة أو الأخلاق؟

** نعم.

* هل تهاجم الرواية مؤسسات النظام؟

** لا.

* هل هل تحتوي على قيم أدبية أو تسجيلية؟

** بشكل نادر.

* أية ملاحظات عارضة أو ظرفية تؤدي إلى هذا القرار “رفض نشر العمل” أو ذاك “قبول نشره”؟

** تحتوي الرواية على صور قصيرة عن الحياة الحالية في مدريد بنيت على حوارات بين شخوص لا يربط بينها روابط واهية، لكن لا يوجد في هذا الشيء المسمى خطأ رواية أية قضية أو جدل حاد. فقط يدور الجدل لإضاءة انحرافات أو عيوب حالية، ولاسيما من النمط المرتبط بالحياة الجنسية، الأسلوب واقعي جدا على أساس حوار مبتذل ورذاذ من العبارات الخشنة، لا يتمتع بأية جدارة أدبية، والعمل “الرواية” غير أخلاقي بشكل صريح بل إنه أحيانا يتحول إلى لوحات جنسية مكشوفة وأحيانا يتحول إلى مجرد وقاحات”.

وأوضح د. العطار أن النموذج الذي يجيب عليه الرقيب من وضع نقاد أدبيين ويمثل تصورا لما ينبغي أن يكون عليه الأدب في مرحلة ما من تاريخ بلد ما، وهذا النموذج وإن كانت تنفذه السلطة ـ مشتق من مثل قاعدة شعبية ـ اتسعت أو ضاقت ـ تساند السلطة وتشاركها في سلم القيم بما فيها القيم الجمالية التي تمتزج بغيرها من القيم امتزاجا يحرم الجمال من جماليته، إن الرقابة سواء كانت من طرف الحكومة أو أي مؤسسات اجتماعية تمثل مدخلا منسيا لمعرفة سر انتشار أنظمة من النقد والإبداع في آن.

ويلفت إلى أن المفاجأة التي قد تدهش القارئ أن كاميلو خوسيه ثيلا مؤلف هذه الرواية كان رقيبا زميلا لـ “أندريس لوكاس” الذي كتب عنه التقرير السابق، لقد كان من أنصار فرانكو المتحمسين، فرغم إعلان عدم لياقته بسبب معاناته من السل انضم للجيش الوطني الفرانكيستا. وهو نفسه كان كفيلا بكتابة تقرير مماثل أمام مسئوليته كرقيب، ومن ثم فيما يبدو أن الناقد “ينقد” بوعي محكوم بأيديولوجية أو بانتماء.

وقد افترق الناقد والمبدع في “ثيلا”: الناقد يرفض الإبداع والمبدع يطلق الرصاص على الناقد وما ينتسب إليه من نظام يرى في الناقد “رقيبا” وفي الرقيب “ناقدا”. إن تقرير الرقيب سيكون مادة مهمة في تحليل الرواية، لكنه أيضا أكثر أهمية في سيرتها التي سوف تضيء أي تحليل لها”.

ويقول د. سليمان العطار إن أول ظهور لمؤلف “خلية النحل” لم يكن ينبئ بما انتهى إليه، فقد عرف أول ما عرف بالشعر، لكنه بعد ذلك لم يترك مجالا للكتابة دون أن يطرقه، فهو روائي وقصاص، وأيضا مؤرخ للتاريخ العام والأدبي، لغوي كبير، من كتاب الرحلة الممتازين، لكن فاتنا أن نرى أهم الأشياء، فيأتي لنا بصور لها بديعة، ولعل هذه الخصوصية عامة في سلوكه الأدبي والعلمي معا. فمثلا يضع “المعجم السري للغة الأسبانية” يهتم بالكلمات والعبارات المطاردة والمدانة قيميا، لكنها تمثل جانبا مهما من حياة الناس وتاريخهم اللغوي والسلوكي. ويشجع تلامذته على اتباع نفس الطريق. ومع هذه الطبيعة هو امتداد إنساني للتراث الإسباني. لم يخرق نواميس الطبيعة الوطنية ولا ينبغي له. إنها السبيل الوحيد نحو الأفق الإنساني العام.

وينقل د. العطار عن ثيلا وصفه للظروف بالغة البؤس التي كتب في ظلها الرواية، وقصة الخبر تدور حول مائدة مقهى هرمة. إن البيوت التي تقلب فيها أثناء الكتابة كانت تعبق بالبؤس، مثلا تخلو من دورات المياه ولا تزيد عفونتها عن عفونة البيوت المجاورة، وآخر بيت منها مثلا كان يتميز بأنه يقي الكاتب من المطر، وكان به مطبخ يجلس فيه للكتابة، إضافة لهذه الظروف البهيجة فإن كثرة الجلوس للكتابة هاجمته بشتى الأمراض الطريفة، هل هذا جو يمكن الكتابة فيه؟!

ويشير إلى أن حياة مدريد في الأربعينيات محزنة لكنها الحياة على أية حال، والكاتب عليه أن يصورها بكاميرا بارعة قادرة على التركيز وانتقاء العينات الممثلة بدقة للبانوراما الكلية ولقطات الكاميرا تنقل الحياة بوقائعها.

وقائع الحياة ليست طبيعة ميتة أو حية ولكنها الإنسان. والإنسان عندما يفعل اللافعل، أي تصاب حركته بالعقم وتفقد الهدف في طرق ضالة يصير منبعا لا ينضب من السخرية، ولو استطاعت الكاميرا ـ هي الكاتب في هذه الحالة ـ أن تضحك لضحكت ملء فمها مما ترى حتى لو امتلأ قبلها بالحزن، هذا ما يتدفق طوال الوقت في الرواية: السخرية تطرحها الحياة، والقارئ يضحك ملء قلبه حزنا، إننا قلما نعثر في الأدب العالمي على عمل يموج بالسخرية العميقة مثل هذا العمل. كل سطر مشحون بها كما شحنت بها الحياة بالضبط. ربما أقل قليلا عما يحدث في الحياة لكن التوازن سيحدث عبر القارئ بين الرواية التي تختفي تدريجيا وبين الحياة التي تنتصب في خياله تدريجيا أيضا لكن، كلما كبرت صورة الحياة عند القارئ اقتربت الرواية من النهاية، قد ننسى أسماء ووقائع لكننا ننسى ما أنشأنا في أنفسنا من صور شاملة لتلك الحياة التي أقمناها من داخل الرواية.

ويرى د. سليمان أنه عند البحث في الرواية عن السخرية الفكهة التي ستغمر القارئ بالبهجة التي تحول حزنه إلى حزن جمالي نبيل “الحزن البهيج” سنجدها في كل مكان وزمان من عالم الرواية المسطور.

إن الرواية تبدأ بالسخرية من نفسها بشكل ما، فهي تسخر من أدب الأربعينيات الإسباني الغارق في مشاكل الفن للفن والحداثة موليا ظهره للحياة. إن مارتن ماركو ـ شخصية في الرواية ـ عندما يعلن أنه لا يزال يقول الشعر يشعر بخجل، وصورة الشاعر في مقهى دونيا روزا وشعره ومعاناته مشكلة كبرى حول عنوان القصيدة التي تشبه نكتة هل تكون: المصير أو مصير.

إنه يموت من الجوع والسأم مثل جميع أهل بلده وتشغله مسألة يجعلها كونية: المصير أو مصير. إن السخرية من أدب العصر دعوة من الكاتب أن يعطي الأدب نفسه للحياة فتعطيه نفسها بدلا من الدوران في الصراعات المذهبية الأدبية.

ويختتم العطار مقدمته التي تشكل دراسة مهمة في الرواية والروائي إلى أن ظهور الرواية في الأرجنتين كان من حسن حظ الروائيين الجنوب أميركيين حيث تحولت إلى مدرسة “حتى أنني أرى تأثيرها الكبير في روايات هذه القارة القصاصة، لقد سبق لي ترجمة رواية “مائة عام من العزلة” وهي ابنة شرعية بمفهوم ما للبنوة الأدبية الخلاقة لرواية خلية النحل.

وكما انتقل ثيلا بأدب بيو باروخا أستاذه المعلم دون جدال إلى مرحلة جديدة، فكذلك فعل ماركيز في روايته “مائة عام من العزلة” لقد نقل ثيلا إلى مرحلة أبعد كثيرا، ولكنه هدم “خلية النحل” وصنع من حطامها رواية “عمدة” تعمد أهم عمل بالأسبانية يظهر بعد “خلية النحل”.

ما بين 1951 “ظهور رواية ثيلا” و1967 “ظهور رواية ماركيز” قفز الفن الروائي الأسباني إلى قمة لازال يتربع فوقها.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى