الألباني الذي أصبح رئيس «حكومة عموم فلسطين» (محمد م. الارناؤوط)
محمد م. الارناؤوط
مرّت قبل أسابيع الذكرى الخمسون لوفاة أحمد حلمي باشا (1882-1963) من دون أية إشارة عنه على رغم المناصب التي شغلها في دول آفلة ودول جديدة في الشرق الأوسط طيلة القرن العشرين، والتي كان آخرها «رئيس حكومة عموم فلسطين» من أيلول (سبتمبر) 1948 إلى وفاته في سوق الغرب شرق بيروت في 29 حزيران (يونيو) 1963، تلك الحكومة التي لم يبق منها سوى جوازات السفر لدى بعض المعمّرين.
أحمد حلمي عبد الباقي شخصية مركبة متعددة الأبعاد الاثنية والثقافية كان لها دورها الفكري والسياسي والاقتصادي والأدبي في المنطقة خلال القرن العشرين.
ولد في صيدا عام 1882 لأب ألباني كان يخدم في الإدارة العثمانية، وتنقل معه بين لبنان وفلسطين، ثم تابع دراسته في إسطنبول وعاد إلى نابلس للعمل في البنك العثماني. ونظراً إلى مكانة أبيه عهد بتعليمه اللغة والأدب إلى الأديب المعروف سعيد الكرمي، وهو ما جعله يتميز لاحقاً في مجال الشعر كما يشهد على ذلك ديوانه الذي نشر في عمّان سنة 2002 مع مقدمة لإبراهيم نصر الله، كما عُرف عنه دعوته إلى الحرية والحكم الدستوري وهو ما أدى إلى نفيه من نابلس إلى أن قام الجيش العثماني بانقلابه في تموز (يوليو) 1908 وأُعيد العمل بالدستور. ومع إعلان الحرب العالمية الأولى جُنّد في الجيش العثماني وشارك في العمليات العسكرية ضد الجيش الإنكليزي في العراق حتى 1917 ثم انضم إلى الثورة العربية.
انضم إلى «حزب الاستقلال» الذي كان الواجهة السياسية لـ «جمعية العربية الفتاة» في دمشق. ونظراً إلى خبرته المالية عيّن معاوناً لوزير المالية في الحكومة العربية سعيد شقير، وبقي هناك حتى معركة ميسلون ودخول القوات الفرنسية إلى دمشق في أواخر تموز 1920.
وبعد انتقال أركان حزب الاستقلال إلى عمان، ساهم عبد الباقي مع غيره من اللاجئين السياسيين في حكومة الإمارة الجديدة التي نشأت في شرق الأردن بحكم خبرته المالية وشارك وزيراً للمالية في ثلاث حكومات متعاقبة (حكومة مظهر رسلان وحكومة علي رضا الركابي وحسن خالد أبو الهدى) خلال 1921-1924.
وبعد ذلك ذهب إلى القاهرة حيث استدعاه من هناك في 1926 الحاج أمين الحسيني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في القدس ليكون مراقباً عاماً للأوقاف مستفيداً من خبرته المالية والإدارية. فاستقر في فلسطين وأصبح من الشخصيات العامة فيها بعد انخراطه في العمل الاقتصادي والسياسي.
وفي 1930 اشترك مع عبد الحميد شومان في تأسيس «البنك العربي» الذي ارتبط صعوده به لأنه كان يديره في غياب الشريك في الولايات المتحدة حتى عودة شومان واستقراره في القدس في 1933. وفي تلك الأثناء أسس أولاً «البنك الزراعي» ثم «بنك الأمة العربية» في 1942، وكان همّه الأساسي دعم الفلاحين الفلسطينيين لعدم بيع أراضيهم لليهود.
أما في الجانب السياسي فقد تمثل دوره في قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية (اللجنة العربية العليا) حيث كُتب المنشور التاريخي والدعوة إلى الإضراب العام في 1936 في مكتبه بالقدس. وبدت مكانته لاحقاً إذ كان من بين الزعماء الذين نفتهم بريطانيا إلى جزيرة سيشيل في 1937 ولم تطلق سراحهم إلا في 1938 لإحداث انفراج مع القيادة الفلسطينية عشية مؤتمر لندن 1938.
وبعد تصريح وزير الخارجية البريطاني في مجلس العموم في شباط (فبراير) 1943 عن تأييده لأي اتحاد عربي «إذا رغب العرب في ذلك»، رداً على اقتراح لرئيس الوزراء العراقي نوري السعيد، بادر عبد الباقي ونسيبه رشيد الحاج إبراهيم (حمو ابنه محمد) وعوني عبد الهادي إلى الكتابة لنوري السعيد للدعوة إلى «مؤتمر عربي حكومي أو شعبي يُقرّر فيه قيام اتحاد عربي على وجه يضمن رفع مكانة العرب»، وهو ما تلقّفه نوري السعيد وخاطب به رؤساء الحكومات ثم التقى هؤلاء في القدس خلال تشرين الأول (أكتوبر) 1943 ضمن التحضيرات لمؤتمر الإسكندرية 1944 الذي تمخض عن تأسيس جامعة الدول العربية.
ومع تفاقم الأوضاع في فلسطين بقي مرابطاً في القدس ومدافعاً عنها حتى 15 أيار (مايو) 1948 حين أعلن الملك عبدالله عن توجه الجيش العربي إلى فلسطين وتعيين عبد الباقي حاكماً عسكرياً على القدس، فأدار باقتدار المعركة للحفاظ على القدس في وجه الهجمات الإسرائيلية.
وفي غضون ذلك كانت جامعة الدول العربية قررت في تموز 1948 تشكيل «إدارة مدنية موقتة لفلسطين» ثم قررت اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية في أيلول 1948 تشكيل «حكومة فلسطينية» برئاسته وتلقى دعوة من رئيس الوزراء المصري محمود فهمي النقراشي لتمثيل فلسطين في الجامعة العربية باعتباره «رئيس حكومة عموم فلسطين» التي تقرر أن تعلن في غزة يوم الجمعة 25 أيلول 1948.
ولكن هذا القرار أدى إلى انقسام فلسطيني داخلي، إذ سعى الحاج أمين الحسيني إلى عقد مجلس وطني برئاسته ليكون مرجعاً للحكومة الجديدة ومدخلاً لرئاسة الدولة الجديدة، وهو ما اعترض عليه عبد الباقي خلال انعقاد المجلس المذكور الذي لم ينجح في حشد غالبية فلسطينية معه. ومن ناحية أخرى أدى عقد مؤتمر عمان في اليوم ذاته (1/10/1948) إلى قيام مرجعية أخرى فلسطينية انتهت إلى تأييد انضمام الضفة الغربية إلى الأردن. وقد أثر هذا في مساعي «حكومة عموم فلسطين» لكسب الاعتراف الدولي في الأمم المتحدة خلال دورة الجمعية العامة في 1948 والجامعة العربية لاحقاً. وقررت الجامعة العربية بعد اعترافها الواقعي بانضمام الضفة الغربية إلى الأردن عام 1950 أن تخفض تمثيل «حكومة عموم فلسطين» إلى شخص رئيسها فقط كما خفضت المساعدة السنوية التي استمرت حتى نهاية عام 1962، أي إلى أن مرض رئيسها وانتقل إلى بيروت حيت توفي في 29 حزيران (يونيو) 1963 ونعاه أمين عام الجامعة العربية عبد الخالق حسونة في افتتاح الدورة الأربعين لمجلس الجامعة في 9 أيلول 1963 بلقبه الذي أصبح يمثل الماضي: «رئيس حكومة عموم فلسطين». ومع أن الأردن لم يعترف بـ «حكومة عموم فلسطين» ولا برئيسها، على رغم العلاقة الطيبة التي كانت تربط بين الملك عبد الله وأحمد حلمي باشا حتى أيلول 1948، إلا أن الملك حسين سمح بنقل جثمان عبد الباقي إلى الأردن ودفنه في القدس بناء على وصيته.
وعلى رغم الأوضاع الصعبة التي وجدت فيها «حكومة عموم فلسطين»، أذ جوبهت بانقسام فلسطيني- فلسطيني بعد أن سحبت البساط من زعامة الحسيني وبتنافس عربي- عربي لاستقطاب عرب فلسطين، إلا أن عبد الباقي بقي يمثل الكيانية الفلسطينية في أصعب الظروف ونجح في إصدار «جواز سفر حكومة عموم فلسطين» لعشرات الآلاف من الفلسطينيين العالقين في قطاع غزة وغيره إلى أن توقف إصداره مع وفاته وأخذت الدول العربية المضيفة للاجئين الفلسطينيين تصدر لهم وثائق سفر باسمها.