لماذا دمشق ؟!
أنا لست من مواليد دمشق ، فأنا من مواليد بانياس الساحلية ومع ذلك فقد إستطاعت هذه المدينة العجيبة أن تضمني إلى صدرها و تشعرني إنني لا أنتمي إلى مدينة سواها.
جئت إليها و أنا بعد في مطلع مراهقتي كي أتابع تحصيلي المدرسي الثانوي بعد انتقال عمل والدي الوظيفي إلى بلدة صغيرة لم يكن فيها مدرسة ثانوية. وكان أن سجلت طالباً آكل و أنام في القسم الداخلي – عندئذ من مدرسة تجهيز البنين الأولى، والمسماة حالياً ثانوية جودة الهاشمي في بداية عهد الاستقلال و جلاء المحتلين الفرنسيين. وكان لي ” عمة ” تقطن مع أسرتها في الجادة السادسة من حي المهاجرين في سفح قاسيون كنت أزورها وأنام عندها الخميس والجمعة وأعود إلى مدرستي صباح السبت.
اكتشفت دمشق إذن كما يكتشف السجين العالم الخارجي المحيط بسجنه من خلال القضبان، فمن خلال نوافذ المدرسة كنا نسر في النظر إلى الشوارع والبيوت المقابلة فإذا حل الخميس انطلقنا ظهراً راكضين كالعصافير الحبيسة، و كان لا بد أن نقوم بجولة نتفحص فيها الحياة الدائرة في المدينة الكبيرة فنتوقف على الدكاكين و نتوه قليلاً في الازقة الطويلة ونتأمل جدران المسجد الأموي في آخر سوق الحميدية العجيب بمحلاته التجارية المتنوعة و الخلابة ونمسح بأيدينا على الحجارة الضخمة الباقية من الأسوار القديمة، وتسحرنا واجهات دور السينما بإعلاناتها الضخمة المغرية. وكنت أخيراً أركب الترامواي الصاعد إلى (( المهاجرين )) وأنعم بالإصغاء إلى رنين جرسه و تأمل ركابه وأنزل منه في موقف ” المصطبة ” كي أصعد إلى بيت عمتي و ياله عندئذ من منظر يخطف القلب والبصر وأنا هناك في الأعلى أطل على دمشق المنبسطة بين البساتين الممتدة إلى أقصى الأفق !
و هكذا يوماً بعد يوم استطاعت المدينة فسيحة الأرجاء أن تزيح جانباً صور المدن الصغيرة التي تنقلت أسرتي بينها، مع أن عدد سكان دمشق في ذلك العهد لم يكن يتجاوز ثلاثمئة ألف نسمة ولكن عجائبها لم تكن تحصى، فالسيارات مثلاً كانت قليلة جداً، و كانت العربات التي تجرها الخيول هي تاكسيات ذلك العهد، ولم يكن ألطف من ركوبها أو التعلق بمؤخرتها، وعندما كنا نعطش لم يكن ألذ من أن ينكبَّ الواحد منا على الحنفيات العامة لمياه الفيجة نشرب ملىء أيدينا حتى الإرتواء …
في دمشق اكتشفت وتعلمت معنى الأصالة والعراقة التاريخية والمشاركة الشعبية الواسعة في النضال الوطني واحتفالات أعيادها الكبرى وفي طليعتها عيد الجلاء في السابع عشر من نيسان !
يالذكريات تلك الأيام وما أحلاها وقد باتت و رائي كحلم صاخب مبهج يكاد يضيع مع أيام زمننا الحالي الذي تغير فيه كل شيء وقد جفُ بردى واحترقت الغوطة كما جفت و احترقت قلوب فيها …
و مع ذلك .. وبالرغم من كل الأهوال التي تمر بها البلاد في هذه الأيام القاسية، تظل دمشق بتاريخها العريق كأقدم مدينة كبرى في التاريخ عاصمة للمودُة والسلام والإخاء والقدرة على تجديد أساليب عيشها مما يلطف من التطوُر المخيب أحياناً للآمال .. إنها دمشق ! ولا تسألوني بعد هذا لماذا صرت دمشقيا مؤمناً بقدرة مدينة على تحدي المصاعب والكوارث وما عليكم إلا أن ترجعوا إلى تاريخها الحافل بالكوارث كما هو عامر بالحضارة العريقة القادرة دوماً على إنقاذ الأصالة التي تميزها …
فيا لدمشق التي ما أزال أبحث عن أسرارها التي لا تنتهي كيف أستطاعت أن ترمم حياتها بعد ” تيمورلنك” مثلاً الذي اغتصبها وخربها وأباد وسرق معظم سكانها ثم عادت وعاشت و ظلت هي دمشق !…