حكاية الباحث عن مدينته
أعرفه جيداً و إليكم حكايته …
يستيقظ مع مدينته حين تنطلق من المآذن الألف، صيحة واحدة تعلن ولادة يوم جديد . ينهض . يغتسل …يتوضأ .. ثم يمضي إلى المسجد القريب . يدخل في ضباب الفجر و غبش المصلى و قد خلع حذاءه ماشيا على السجاد بخطوات رصينة باتجاه فجوة القبلة . ليس من أحد سواه و حفنة من الجيران المأخوذين بروعة الأذان في سكينة الخشوع الصافي وسط الهزيع الأخير.
يخرج من المسجد في اتجاه الحديقة القريبة . يكون الشجر و العشب في انتظاره . يعانق الشجر . يمسح على خد العشب ثم يتابع طريقه في اتجاه الأحياء القديمة باحثا عن مدينته . يمر قرب المقهى المجاور للمقبرة يتحسر على المكان النظيف الذي استحال إلى دكان قذرة ، ينسل من الزقاق المتلوي خلفه فيأخذه الشارع المستقيم إليه فيبدو كأنه غريب ضائع . يجتاز الفتحات الجانبية لعلها تقوده إلى الأزقة فيكاد لا يرى سوى السقوف المنهارة ، فيسأل أحد المارة عن مطعم ” أبو مجيد ” فينظر إليه في بلاهة و هو نصف مطرق دونما جواب ، فإذا أعاد عليه السؤال تنهد قائلا : – لا أعرف …
ها هو ذا عند الباب الشرقي مما تبقى من سور دمشق حيث دخل الفاتح خالد بن الوليد إليها . يقترب و يتحسس الحجارة الضخمة من بقايا السور كأن الذين رحلوا يمكن استعادتهم و هم يقتحمون التاريخ وصولا إلى أقدم مدينة على وجه الأرض ، يتعمد المرور تحت قوس الباب التاريخي في إتجاه الغوطة ، و لكنه لا يرى منها سوى المصانع و دور السكن العشوائية و الثكنات العسكرية .
تكون الشمس قد تلامح وهجها فيوغل في إتجاه الخضرة ، و لكن أين يختفي الربيع و هو في نيسان ؟ لا أثر للربيع ! يخترق العمران الطائش و قد أعياه المسير…
يعترضه خفير مسلح ينهاه عن المشي قرب حائط الثكنة العسكرية صائحا : إنزل عن الرصيف !
لا يعترض فهو يعرف جيدا مآله إذ ما اعترض . ينظر بعيداَ و قد شم رائحة بستان .
لم يكن بستاناً، كانت ثلاث شجرات من الحور قرب ساقية جافة . يقترب منها و يلصق وجهه بجذع الشجرة الأكبر.
تقول له الشجرة : من أنت أيها المتعب ؟ فيجيب : أنا صديق الورق الأخضر ، و الزهر الأبيض و الملون و الماء الذي يثرثر في الساقية المفتوحة على النهر الذي كان فياضاً ثم جف.
تضمه الشجرة بين أغصانها ، فيختفي في أحضانها إلى أمد قصير . يهرب إلى طريق آخر و قد ساءه المنظر و يتوقف قرب باب مفتوح كان يقف إلى جانبه رجل عجوز فيسأله : هل أنت من سكان هذا الحي ؟ فيبتسم العجوز قائلا : طبعا أنا حجر من أحجاره …فيسأله أيضا:لا بد انك تعرف إذا أين يقع بيت ” الشابكلي ” ؟ فيقول العجوز : الشابكلية كلهم رحلوا .. هل ترى علبة الكبريت الضخمة هذه ؟ هناك كان بيتهم ثم أزاله الذي اشتراه ورفع فوقه علبة الكبريت الضخمة هذه . هل ترى أبشع منها بعد ذلك البيت
الجميل ؟…
تابع طريقه آسفا ، فإذا برجل مدني يعترضه و يسأله عن هويته فأبرزها له فنظر فيها متجهماً و هو يقول له ” لا حظت مرورك بي في ذهابك من دون ان تشعر بوجودي .. كنت تتلفت كثيرا يمينا و يساراً .. هل تبحث عن شيء معين ؟ فيجيبه : ( إنني أبحث عن مدينتي التي تغيرت ) فيقول له رجل الأمن كما يبدو :
” ها هي مدينتك أمامك …لم تتغير ..” فيجيب آسفا : كلا .. ليست هذه مدينتي !. فيقول الرجل المدني بلهجته جازمة : ” إبحث عنها إذن في مكان آخر ، ولا تتلفت كثيرا حولك كالجواسيس ” .. قال ذلك ثم إختفى وراء محرسه..
و بدوره ..يدخل صاحبنا الباحث عن مدينته في زقاق جانبي طويل .. و يختفي عن الأنظار في عتمة الزقاق الدمشقي المحروس جيدا ….