الرواية اللبنانية استدعاء للماضي القريب (عناية جابر)

 

عناية جابر


عبثاً نحاول أحياناً، في عالم الإبداع، أن نشذ عن واقعنا الملموس. تتبعنا الأحداث التي نعيش إلى نصّنا سواء كان شعراً أو لوحة أو موسيقى. يحاول المبدعون أن ينحوا بأعمالهم عما يعيشونه في كل يوم فتسبقهم الأيام إلى أعمالهم على شكل هواجس ومخاوف ونزعات تتحكّم بالمواضيع والأشخاص. لم تشذ الرواية اللبنانية هذا العام عن هذه القاعدة بالرغم من محاولة البعض الابتعاد ما أمكن عن الهموم العامة والمشتركة لكي يركّز الأضواء على دواخله وأحاسيس أبطاله الشخصية والفردية.
من يتصفّح الروايات اللبنانية الصادرة هذا العام 2013 يُفاجَأ بالكم الكبير من الموضوعات التي تدور حول قضايا الساعة سواء على نحو مباشر أم غير مباشر. التهمت الحروب الأهلية، بمظاهرها وقلقها، وأسئلتها التي تحاصرنا من كل صوب، الرواية اللبنانية الصادرة هذا العام. ومن المفارقات اللافتة أنه كلما سعى الروائي إلى الهروب من الهموم العامة اليومية المشتركة غرق في رمالها المتحركة سواء وعى ذلك أم لم يعِه. كأن الروائي الذي يعمل على المادة المتخيّلة، من حيث المبدأ، قد اصطدم هو أيضاً بواقعه الملموس الذي لم يبق له مساحة كافية لخياله فهرب إلى الرحم. ولعله هرب إلى الماضي، لا للتخفي والانسحاب، بل ليستنطق هذا الماضي ويسائله ويعيده من جديد لعل شيئاً ما فاته في المرة الأولى فلم يستطع أن يلتقطه تماماً وبكل أبعاده.
العودة إلى الماضي في الزمان والمكان أولى الملامح التي تفرض نفسها على قارئ الرواية اللبنانية الصادرة في العام 2013. الماضي يحضر عبر التاريخ كما في رواية زياد كاج «ليالي دير القمر» الصادرة عن دار نلسن، حيث يعود بالتذكار إلى حرب الجبل السابقة في القرن التاسع عشر. كما في «كاريزما»، رواية هالة كوثراني، الصادرة عن دار الساقي، والتي تروي حكاية ثلاث نساء من أزمنة مختلفة يتعايشن سوية كسيرة لا تنقطع او كزمن يواصل سيرته دون انقطاع.
هذا التاريخ بالضبط شدّ أيضاً ربيع جابر إليه في «دروز بلغراد»، دار الآداب، حيث اقتيد حنا يعقوب، المسيحي، ضمن مجموعة من الدروز تمّ نفيهم زمن العثمانيين إلى قلعة بلغراد. حرب الدروز والموارنة في القرن التاسع عشر تجذب الرواية إلى حبكتها سعياً وراء فهم وضع لبنان بعد حرب الجبل ومجازر 1860. لم يشذ اسكندر نجار في «برلين 36»، الصادرة عن دار الساقي، عن القاعدة فراح في رحلة الى دورة الألعاب الأولمبية التي أقامها أدولف هتلر في برلين العام 1936 لكي يكتشف خيوط الدكتاتورية المتحكمة بالشعوب عبر الإرهاب الفكري والجسدية وقمع الحريات، وكيفية مقاومتها. لسنا بحاجة هنا الى زيادة شيء لتبيان المحاكاة مع تيمة اليوم السياسية.
الماضي يحضر كذلك عبر عودة الروائيين إلى أحيائهم وقراهم وبلداتهم الحقيقية او المفترضة، كما في «حي الأميركان» في مدينة طرابلس الشمالية لجبور الدويهي الصادر عن دار الساقي، أو في «الشافيات» لعباس بيضون، الصادر عن دار الساقي أيضاً، حيث يعود الى ذكريات جنوبية ولو متخيّلة في جزء كبير منها، أم في رواية حسن داوود «لا طريق الى الجنة»، دار الساقي، حيث اختار رجل دين جنوبي كبطل لقصته الغرامية، أم مع يمنى العيد في «أرق الروح» التي اختارت أن تمزج بين ذكريات مدينة طفولتها صيدا الجنوبية وبين ذكرياتها الشخصية.
ـ كما يعود هذا الماضي ايضاً على شكل ذكريات واقعية، كما في عمل أنطوان الدويهي «حامل الوردة الأرجوانية»، وحامل هم شرح عالمه الفرنسي الآخر لعالمه الأول اللبناني. وكذلك الأمر في ذكريات فارس يواكيم الشخصية عن الأغاني وكلماتها التي انتقلت من حال القصيدة الى حال الأغنية.
ـ وفيما عدا مي منسى في «تماثيل مصدعة» التي تتحدث عن قصة شاب تمّ الاعتداء الجنسي المتواصل عليه من قبل والده، ورشيد الضعيف في «هرّة سيكيريدا»، الصادرة عن دار الساقي، التي تتحدّث عن رضوان إبن الخادمة الأثيوبية، عاد الجميع إلى الماضي البعيد والقريب، الفعلي والمفترض.
ـ ماذا يقود الروائيين اللبنانيين بغالبيتهم العظمى إلى استدعاء الماضي؟ ماذا يريدون منه أن يقول لهم؟ أهو الحاضر الذي يهربون منه؟ هل مداواة الحاضر الصعب بالماضي؟ أم هو الغموض الذي يلفّ أسئلة الحاضر؟ لا شك في أن الحاضر المتفجر باسئلته الملتبسة كافة قد فاجأ الروائي في مخيلته الوديعة. فجعلت لغته متوترة، مستفسرة، شارحة أكثر منها واصفة، لغة تبحث عن ذاتها وعن اسئلتها، أكثر منها مبحرة في عالم الأبطال الفردية الخاصة. خضعت الرواية للضرورات الموضوعية للحظة الراهنة، وتركت، مؤقتاً ربما، عالم الذات والأحلام الفردية. فأخذنا اسكندر نجار عبر شخصياته المتخيّلة أو الحقيقية إلى عالم أدولف هتلر لكي يجري نوعاً من المحاكاة بين المستبد الألماني وبين الاستبداد الشرقي. يسأل الأول ليفهم الثاني.
ـ طوّع الروائي هنا لغته لكي تستجيب للحاجة المطلوبة. الشأن العام المسيطر على هواجس الجميع حضر في نصه، كما لو كان إجابة على حاجة فهم ما يدور حول الكاتب من قصص حقيقية.
ـ أما انفجار الطائفية، التي كان الاعتقاد السائد حولها يريد لها أن تكون استثناءً لبنانياً، فقد فاجأت بتمددها وظهورها وسيطرتها على الساحة العامة في الدول العربية الأخرى. الأمر الذي استدعى تدخّل الروائي هنا أيضاً ولو بصيغة شخصيات وأبطال من التاريخ السابق. فقام زياد كاج يستطلع حرب البشيرين في الجبل في العام 1860 لكي يفهم حرب الجبل في العام 1983. وهو عندما يحكي عن تبادل الأدوار بين الضحية والجلاد، بين وجدي وحبيب، المنتصر والمهزوم، إنما يبدو وكأنه يطلب من لغته أن تكون تحذيرية تنطوي على إعطاء المثل. فلا ابلغ من التوقف عنده على تحالفات الداخل ورهانات الخارج، عن «أوهام الماضي وأشباح الحاضر وظلال المستقبل».
ـ لم يغب هذا الهم أيضاً عن ربيع جابر الذي حصر اهتمامه بحكاية مجموعة من الدروز تمّ اعتقالهم ونفيهم إلى قلعة بلغراد، من قبل السلطات العثمانية آنذاك. الصحيح أيضاً أن الروائي حاول الخروج من عرض الحال كما هو عبر التركيز على مصير مسيحي فقير، حنا يعقوب، اعتقل ونفي مع عناصر الطائفة الأخرى بواسطة أحد الضباط العثمانيين الفاسدين الذي نقله بدلاً من درزي استطاع شراء هذا العسكري العثماني. لكن مجرد متابعة حياة هذا المعتقل «الغير» تكفي وحدها لكي تقول إلى أي حد تطغى المسألة الطائفية على الهم المحيط بالرواية.
ـ اما اصطدام النخب الثقافية والشبابية بتعقد السوسيولوجيا العربية فلم يمرّ بدون متابعة روائية هو الآخر. وقد يكون تحوّل الانتفاضات الشبابية، من مشاريع حرّية إلى حروب أهلية مدمّرة، بذرة تفتحت في بعض الروايات على شكل عودة أو حنين إلى القرى والأحياء الحقيقية او الافتراضية للروائيين. فليس صدفة هنا أن يتذكر جبور الدويهي مثلاً «حي الأمريكان» في طرابلس وأن يحكي قصة أبطاله المحكومين بنبض الحي وقضاياه وارتباطاته السياسية وهويته.
ـ حتى مي منسى التي تبدو لأول وهلة مغردة خارج السرب تعود لكي تنخرط في هموم اللحظة. فبطلها الذي تعرّض لاعتداء جنسي متواصل من قبل والده لا يطرح غير المصير الفردي الذي تشدد عليه الانتفاضات في شعاراتها ومطالبها. التيمة عند الروائية تتخذ في البداية طابعاً فردياً لكنها سرعان ما تتلاشى أمام ضغط الشباب ومشاكله الحالية.
ـ الضغوط الخارجية التي تمارسها الصراعات الاجتماعية والوطنية الحالية على الروائيين انعكست على نحوٍ ظاهر في أعمالهم الصادرة هذا العام. ولعل القرب من الحدث والمكان لم يترك للغة الروائيين المسافة الضرورية للابتعاد قليلاً عن الالتصاق بالهم اليومي. أو ربما كان هذا الالتصاق ضرورياً لكي يجسد الحدث التاريخي الحاصل ويحمل همومه وينقلها إلى الأجيال المقبلة على صورة روايات واعمال أدبية وإبداعية.
ـ عودة غالبية الروائيين إلى موضوعات الساعة، وبهذه السرعة، يعيدنا، ربما، إلى لغة الواقعية الأدبية وإن من زاوية متجددة وحديثة. لننتظر.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى