العدالة الاجتماعية.. تحولات في المعاني والمفاهيم الحرية أو الخبز.. أم كلاهما؟ (فؤاد مرعي)
فؤاد مرعي
كيف لمجتمعات لا تملك أدوات التعبير المُناسبة ان تطالب بالعدالة والمساواة، وهي إذا ما قررت ان تتحدى السلطات عن طريــق التظاهــر مثلا ســوف تُواجــَه بالعنف الشديد وتُتهم بالخروج على النظام العام والتخريب؟
في هذه الحالة تصبح الحرية شرطا لا غنى عنـه لتحقيق المطالب الاجتماعية. كما تصبح التشريعات الخاصة بإطلاق الحريات مطلبا ذا أهمية مُضاعفة .
من ناحية اخرى، ليس بإمكان المجتمعات المتخلفة اقتصاديا، التي لا تملك مؤسسات قانونية نزيهة، ان تُقيم نظاما للعدالة الاجتماعية اكثر تقدما من النظم الرأسمالية التقليدية. فالنظام الأبوي القديم لم يعد قادرا على تحقيق الحد الأدنى المقبول من العدالة بسبب تأسيسه على فكرة الأبناء القاصرين الذين يحتاجون الى رعاية دائمة، لا على فكرة المواطنين الأحرار الذين يحتاجون الى فرص حقيقية لبناء ذواتهم ماديا ومعنويا دون وصاية من أحد او هيمنة من سلطة، إلا سلطة القوانين العادلة.
لقد رأينا في الثورات العربية، وما سبقها من ثورات في شرق اوروبا، كيف ان الخروج من السجن الى الحرية لا يحتاج إلا لكسر القيود وفتح الأقفال. في حين يحتاج بناء دولة القانون والمؤسسات الى مرحلة انتقالية تُقاس بمستوى تطور كل بلد، تليها فترة أطول لتثبيت دعائم الدولة الجديدة وتأصيل الثقافة القانونية في أذهان الناس وعاداتهم. فهذه المسافة الزمنية الطويلة لا غنى عنها لسبب جوهري يستند الى حقيقة علمية تقول: ان الإستحواذ على المعارف والمعلومات وهي تدخل في نطاق الوعي المُباشر، أسهل بكثير من اكتساب العادات والتقاليد التي تذهب الى منطقة اللاوعي حيث يجري تخزينها من أجل استخدامها بصورة آلية في مراحل الحياة المختلفة.
وعود الحرية والخبز
لكن الثورات لم تحــمل معــها وعــودا بالحريــة وحــدها. فالشعوب كانت لديها آمال عريضة وتطلعات كبيرة نحو تحسين اوضاعها الاقتــصادية والاجــتماعية. إلا ان البعض اعتقد للوهلة الأولى ان الفرصة مؤاتية للفئات الأكثر فقرا وتهميشا لكي تحصل على مكاسب فورية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. وعندما أثبتت الأحداث عدم صحة هذه التوقعات أصيب أصحاب هذا الرأي بالصدمة والإحباط. لهذا السبب لم يروا في الحرية إنجازا لكل الشعوب التي قهرها الاستبداد لسنوات طويلة، ولم يروا فيها تحريرا للوعي والإرادة، وفتحا للطريق الطويل نحو بناء مجتمعات اكثرعدالة. لقد بدوا عاطفيين اكثر مما ينبغي، فيما الوقائع على الأرض لا تبنى على العواطف والآمال الرومنسية، وإنما وفقا لموازين القوى بين الفئات الاجتماعية المختلفة. فما جمعته الحرية من قــوى وهيئات شعبية في الميادين سوف تفرقه العدالة الاجتماعية في أماكن العمل ومقاهي البطالة بسبب تضارب المصالح وتفاوت مستويات الدخل بمُعدلات خُرافية في ظل النظام الرأسمالي.
من جهة ثانية، باتت المعارف الإنسانية الحديثة: علم الاجتماع وعلم النفس وما يتفرع عنهما تربط فعالية الإنسان وحظوظه في الترقي الاجتماعي والاقتصادي بمؤهلاته النفسية والمعنوية لا بمؤهلاته العلمية وحدها. وهو ما كان عليه الأمر دائما. إلا انه بات اليوم اكثر وضوحا من السابق. بمعنى آخر، فإن الإنسان المُتحرر من داخله كان ولا يزال الأقدر على العطاء والإنتاج والإبداع العملي وتنشئة الأجيال وتحمل المسؤوليات من الإنسان الفاقد لحريته الداخلية، المأزوم نفسيا وعاطفيا وجنسيا والمُستلب معنويا، هذا الأمر تسهل قيادته ويسهل استعباده حتى ولو حصل على أعلى الشهادات العلمية. إنه كائن حي ـ ميت، عاجز عن التمتع بالحياة والتصالح معها كالإنسان الطبيعي. وهو إنسان صغير يحتاج الى رعاية دائمة كالطفل او الولد القاصر في نسخته اللطيفة. وهو قد يتحول الى إرهابي او ديكتاتور مُخيف إذا ما وصل الى أعلى المراكز في نسخته العنيفة (هتلر، ستالين، موسوليني، القذافي..).
على صعيد آخر، لم يعد مُجديا او قانونيا في زمن العولمة اللجوء الى العنف والقوة والتآمر من اجل تحقيق العدالة او تداول السلطة. فهذه الأدوات (السرية والدموية) كانت وما زالت مطواعة اكثر في أيدي القوى الرأسمالية التي تسيطر على الاقتصاد وتدير آلياته المرئية والخفية. وما إعادة الاعتبار إليها (اي للأدوات) سوى خدمة مجانية لهذه القوى وغُلاتها من اليمين المُتطرف التي يُناسبها اللعب أكثر في الدهاليز المُظلمة من اللعب في الساحات العلنية والمفتوحة. فالنظام الرأسمالي المُتطور سبق ان فتح بنفسه نافذة ديموقراطية في بنائه السياسي، على عكس النظام الاشتراكي، حين وضع في تصرف القوى الاجتماعية المُختلفة آليات سلمية للاحتجاج والتغيير وإسقاط الحكومات. فلماذا يتجاهل البعض الإمكانات الشرعية التي يُتيحها النظام الديموقراطي لتعزيز المكاسب الاجتماعية؟
هنا تبرز الحاجة اكثر الى التنظيم والوعي والمشاركة في الحياة السياسية والانتخابات، بالإضافة الى الاحتشاد السلمي والعصيان المدني والتعطيل إذا ما دعت الحاجة الى ذلك، وصولا الى إشعال الثورات بأدوات سلمية. لقد تعلمت شعوب العالم دروسا قاسية من أنهار الدماء التي سالت في الحروب الأهلية والوطنية، ومن التجارب المريرة التي عاشتها في ظل الأنظمة الديكتاتورية، اليمينية واليسارية. فهذه الأنظمة الشمولية استنفدت أغراضها الجميلة والقبيحة في مرحلة من المراحل وبات من غير المُفيد العودة إليها. هذا لا يعني ان أحدا لا يسعى الى ذلك. فالمُتطرفون موجودون في كل مكان. على اليمين وعلى اليسار. وهم يفعلون ما بوسعهم للعودة الى الوراء بحجة عدم اكتمال العدالة، وهي بطبيعتها لا تكتمل، وعدم وصولها الى غاياتها النهائية، وهي بطبيعتها لا تصل الى نهاية. هؤلاء لا يؤمنون بأن الحقائق التي يتعاملون معها هي حقائق نسبية، باستثناء الحقائق الدينية. وهم يرفضون الفكرة القائلة إن النظام الرأسمالي الذي تنقصه العدالة في مجالات كثيرة (أهمها إعادة الاعتبار لدور الدولة المركزي في الاقتصاد) يمكن تطويره والبناء عليه، وان ارقى الأنظمة الاشتراكية قد أقام العدالة المادية بالقوة، لكنه عجز عن حمايتها الى ما لا نهاية.
قضية مستدامة
ان العدالة الاجتماعية لا تموت بمرور الزمن لأنها لا تكتمل في زمان ومكان. فهي في أحد وجوهها الأساسية إعادة نظر دائمة ومُستمرة بعلاقات العمل وتوزيع الدخل بين الناس. وفي أحد وجوهها الأخرى هي مسألة نسبية وظرفية تبعا لكل عصر فيه مستوى مُحدد من التطور. اما من الناحية العملية، فهي قضية مُلتبسة ومُتحركة لأن الناس يدركون بالعقل والعلم أنهم غير مُتساوين من حيث المهارات والكفاءات الفردية، لكنهم مُتساوون بالولادة في ما يتعلق بالحقوق الأساسية للفرد المعنوية والمادية، وفقا لمبدأ التشارك الإجتماعي، وهو مبدأ أخلاقي في الأساس، لكنه يُخفي أبعادا اقتصادية هامة، بدلالة أن الأثرياء لا يجمعون ثرواتهم ولا يتميزون إلا بفضل المجتمعات التي يعيشون فيها. على هذا الأساس يتوجب عليهم ان يدفعوا ضريبة هذا الغنى والتمايز لسائر أفراد المجتمع، وهم الأكثرية، إذا ما أرادوا العيش بسلام والحصول على الشرعية المالية والاقتصادية من الشعب مصدر كل الشرعيات.
بين هاتين الظاهرتين المُتعايشتين، ظاهرتي التمايز الاجتماعي واللامساواة، يندلع الصراع السياسي بين الطبقات من أجل تحقيق عدالة التوزيع في الحقوق والواجبات. لكن من طبيعة الطبــقات الثرية المراوغة والعمل من وراء الستار من أجل التهرب من اقتطــاع جــزء مُحدد من مداخيلها وثرواتها لمصلحة خزينة الدولة والمجتمع. يؤدي هذا الأمر الى نشوء صراع مستمر بين النظام باعتباره حامي مــصالح هــذه الطــبقات وبين سائر فئات المجتمع التي تعاني من الحرمان واللامساواة. تتشكل ثقافة تحريضية ضد كل ما يمثله النظام الرأسمالي من قيم ومبادئ تُبيح استغلال الإنسان للإنسان تحت شعارات الحرية الاقتصادية وحرية رأس المال. يذهب البعض للحديث عن صراع حتمي بين الطبقات، فيما يستعيد البعض الآخر عبارة الحقد الطبقي من القاموس الاشتراكي، ولا يرى حلا ناجعا إلا عبر استخدام القوة الثورية في مواجهة القوة المُنظمة.
مبدأ استخدام القوة
لقد أثبتت التجارب ان مبدأ استخدام القوة لتحقيق غايات سياسية ولتثبيت الديكتاتوريات، برغم كل مساوئ الرأسمالية، لا يخدم مصالح الطبقات الفقيرة بقدر ما يخدمها النضال السياسي (والنقابي) الدؤوب المُستند الى وعي حقيقي ومعرفة علمية بحقائق التاريخ والمجتمعات الإنسانية والنفس البشرية. هذا السلاح الفكري والعملي أمضى من سلاح القتل والتدمير. وهو ما نراه اليوم في الثورات العربية التي حرفها العنف عن مسارها الأساسي النبيل بعد ان أعاد الاعتبار لفلول الأنظمة الساقطة، فيما أدى اجتياح الحركات الدينية للملعب السياسي الى انقسام المجتمع الواحد الى إسلاميين وعلمانيين. هذا الانقسام العمودي وفّر الغطاء المُناسب لفلول النظام وقوى الإسلام السياسي على حدٍ سواء، لكي تضرب تارة باسم العلمانيين، وتارة باسم المُتدينين سائر قوى الثورة. هكذا استعادت المؤسسات القمعية مجدها، من جيش وشرطة وأجهزة مخابرات، جنبا الى جنب مع الميليشيات الدينية والعشائرية. إنه درس بليغ لكل من شارك في الثورات من التيارات المختلفة. وهي فرصة لكل من تهمه العدالة الاجتماعية لكي يتحلى بالصبر والنفس الطويل. فالثورات أطلقت الحريات العامة لكنها لم تُنظمها بعد بقوانين. وهي الخطوة التالية بعد انتهاء موجات العنف من اجل التقدم بخطى واثقة نحو دولة القانون والمؤسسات في عالم بات فيه نيل الحق المعنوي الاعتباري طريقا لنيل الحقوق المادية بجدارة الأحرار لا باستجداء القاصرين او غرائز المتطرفين. فهؤلاء ايضا يريدون إقامة دولة العدالة في الأرض عن طريق تطهيرها من مُخالفيهم في الرأي او الدين او العرق.
صحيفة السفير اللبنانية