الشاعر العراقي عبد القادر الجنابي يكتب رواية “بوليسية بالخطأ”
أنطوان جوكي
نعرف العراقي عبد القادر الجنابي شاعراً وناقداً ومترجماً وضع دواوين وأنطولوجيات وكرّاسات يصعب إحصاؤها، وأسّس في باريس، حيث يقيم منذ عام 1972، مجلات طليعية بالعربية. لكن ما يجهله معظمنا عن الجنابي ـ من دون أن يفاجئنا ـ هو تمتّعه بموهبةٍ سردية لافتة تجلّت حديثاً من خلال رواية قصيرة صدرت عن دار «التنوير» تحت عنوان «المرآة والقطار» وتشكّل ببنيتها وحبتكها وطابعها الغرائبي الآسر أمثولةً في ميدان السرد.
بطل الرواية رجل متأهّل في سنّ الأربعين يدعى «شخصان» ويعيش مع زوجته نادية في مدينة غير محددة بعدما كان يمضي وقته «في الطرقات وبين أدخنة الحانات وأضواء الليل الشاحبة، مخموراً كأي شحّاذ». ولأن لديه قدرة على السرد والحبك، تجد نادية له عملاً في مجلة «جغرافيا العالم».
في مطلع الرواية، نجده يستقل القطار قاصداً «مدينة الشمال» للقاء شخص يدعى طارق سالم من المفترض أن يسلّمه طرداً عليه أن يعود به إلى مدينته من أجل تسليمه إلى صديقه برهان أحمد مقابل «مكافأة مالية كبيرة».
ولأن «لكل كائن ميله الأسطوري»، وميل شخصان هو التخيّل عبر «التحديق في كل ما هو مصقول وشفّاف»، يستسلم داخل القطار لنزعته من أجل «التأمّل في الحياة التي تجري في قعر الزجاج».
وفي هذا السياق، يقول: «أحبّ كثيراً نافذة القطار لأنها تختلف عن كل نوافذ المواصلات الأخرى… لربما بسبب ما تخلقه السرعة من صور تتعاقب كشريط سينمائي. فهي ليست مجرّد زجاج، وإنما مرآة نابضة يمتزج فيها عالم القطار الخارجي الفسيح بعالمنا الداخلي الصغير، المناظر التي يمرّ بها بأخيلة اليقظة التي نتقوقع فيها. نافذة القطار منظر ذهني بامتياز تومض فيها صورةٌ دفينة؛ رغبتنا المقموعة التي غالباً ما تتراءى حلماً».
ولدى وصوله إلى «مدينة الشمال»، يلاحظ شخصان على رصيف المحطة جمهرة من الناس. وبدافع الفضول، يسير نحوهم ويُصعق لدى رؤيته جثة ممددة على الأرض يتحلّق حولها عدد من رجال الإسعاف والشرطة. وحين يسأل الضابط المحقّق عن هوية الميّت، يتبيّن له أنه طارق الذي أتى إلى هذه المدينة من أجل لقائه. وبدلاً من «فتح الباب لحياةٍ ثانية» بفضل المكافأة التي كان يأمل بها، يجد «شخصان» نفسه فوراً «أسير تحقيق روتيني بيروقراطي، لا يعرف المرء فيه متى يُدعى ليجيب عن وابل من الأسئلة المعتادة إلى حد الملل، ولا متى يُترك لخياله وأحلامه»، خصوصاً حين يتبيّن في التحقيق أن طارق توفي مسموماً، مثله مثل برهان أحمد قبله.
هكذا يضطر شخصان إلى ملازمة المدينة المذكورة التي «لم أكن أعرف حتى أين تقع على الخارطة»، إلى أن يُسمَح له بمغادرتها في نهاية التحقيق. لكن مفاجآت رحلته لا تنتهي هنا، فحين يستقل القطار للعودة إلى دياره، يتّضح له أن المقعد الرقم 29 المحجوز له هو نفسه الذي أتى به إلى هذه المدينة، وأن المكان الذي خلد فيه أثناء إقامته في «مدينة الشمال» يحمل أيضاً الرقم نفسه. وبعد فترة قصيرة من انطلاق القطار، يبدأ هذا الأخير بالاهتزاز، قبل أن يدخل في اصطدام بحيث يشعر شخصان بأن العربة الموجود فيها تطير وترتطم بعمود حديدي…
وكي لا نُفسِد على القارئ متعة قراءة هذه الرواية، نكتفي بهذا الحد من التفاصيل حول القصّة المروية فيها، مع ضرورة الإشارة إلى أن عملية سردها دؤوبة ومتحرّكة تحدث فيها تداعيات كثيرة وأحلام يقظة وذكريات بحيث لا نشعر إطلاقاً بالملل، وأيضاً لا نعرف إن كان شخصان نزل فعلاً من القطار في «مدينة الشمال» أم بقي فيه إلى حين لحظة الاصطدام ومنازعته داخل العربة الموجود فيها، وبالتالي إن كان ما عشناه معه في المدينة المذكورة من تحقيق بوليسي هو مجرّد تخيّل. فتفاصيل كثيرة داخل الرواية تجعلنا نستخلص أن بطلها هو شخصية منفصمة، من هنا خيار اسمها، «شخصان»، ناهيك عن أن «الخيال والواقع حاويتان متّصلتان»، كما يقول الجنابي على لسانها داخل نصّه.
لكن قيمة هذه الرواية لا تكمن فقط في هذا الغموض المثير، بل أيضاً في سرديتها القريبة من سردية قصيدة النثر التي طالما دافع عنها الجنابي. ففيها الإيجاز الأسلوبي: «كم أودّ أنْ أضيع في مجاهيل الانعكاس! لقد ضِعتُ!»، والتوتر الذي يجعل من الحبكة الروائية مشوّقة بحيث لا نعرف ماذا سيحدث بعد نهاية كل فقرة فيها، وأيضاً اللاغرضية، مع العلم أن جزءاً كبيراً من الرواية يدور حول فكرة الموت، بل يكاد نصّها يجسّد حبكة الموت الذي يعيشه الفرد في عزلته.
نثرٌ مشدودٌ على ذاته إذاً يفسّر شذب الجنابي سرديته من مقاطع طويلة وشظايا وجدها تخلّ بالبناء الروائي وتحدّ من سرعة السرد، فوضعها في ملحق في نهاية الكتاب بعنوان «مِزْق» كإشارة إلى ضرورة التشذيب في العمل الروائي وتجنّب الإنشاء الذي غالباً ما يعتري أعمال روائيينا.
ملحق استتبعه بملحق آخر عنوانه «مراجع الرواية» وذرّ فيه مصادر فلسفية وحوارات مع كتّاب اعتمدها في المتن الروائي بطريقة ملتبسة وغامضة.
ولا يكتمل تقديم «المرآة والقطار» من دون الإشارة إلى التنظير حول مفهوم الرواية الذي نقرأه داخل نصّها.تنظير يتم عن طريق دخول شخصان مكتبة أثناء إقامته القصيرة في «مدينة الشمال» وإصغائه إلى روائي وراء منصة يجيب عن أسئلة جمهوره.
ومن خلال هذه الأجوبة، يحدد الجنابي مفهومه للعمل الروائي كـ «نثرية مفتوحة حيث طريقة السرد والمضمون المراد إيصاله يكوّنان وحدة عضوية لا يمكن فصلها، وليس في هذه الوحدة ما هو مقرّر سلفاً.
فالوقائع تتكشّف من دون أي استغراق فيها. ذلك أن النثر فيها في حركة دائمة وتوتّر لا يقرّ له قرار، بحيث نشعر أن المكان يتحرّك مع السرد، وكأن اللغة هي اللبنة اللازمة لبناء ما تُصوِّر. نثرية تقوم على نفَس طويل ولا تكتفي بما تحصل عليه من تشخيص معيّن، وإنما تطمح إلى المضي أبعد من ذلك».
صحيفة الحياة اللندنية