“الله حَي…الجنرال جَي” (وائل عبد الفتاح)
وائل عبد الفتاح
سيعود يوم 2014/4/14
اختاروه اليوم لارقامه… ولتجاورها وقع غامض… كأنها مواعيد من مواعيد القدر المختفي في بانورات العرافات السحرية، او في ورقة صفراء مثنية في كتاب محفوظ… انه يوم ظهور الجنرال الذي في مهمة يلاعب آلهة المخابرات دوراً في شطرج كوني.
الجنرل سيعود والموعد دعوة للشعب الى ان يتجمع في ساحة لم تحدد بعد مطالباً بالظهور في يوم تلتقي عنده علامات القدر… وكما هناك بهرة ينتظرون عودة الحاكم بامر الله في شوارع القاهرة الفاطمية… ينتظرونه في ساحات مسجد باسمه ودكاكين يستثمر فيها اثرياء الطائفة هندية الاصل اموالهم حتى يأذن الله بالعودة الشريفة… ينتظرونه منذ قرون ولم تتبخر الآمال كما تبخرت عندما هتف المصريون : " الله حي… عباس جي" انتظارا لعودة الخديوي عباس حلمي الثاني من منفاه في الاستانة.
عباس لم يعد ومات في المنفى. لكن الانتظار لم ينته. وكما حال الشعوب العاجزة والبائسة، فانها تنتظر من الميتافيزيقا ما تراه مستحيلا في الواقع، وتتعلق باهداب الخرافة لعلها تنقذها، او لعلها تصنع في الخيال واقعاً افتراضيا/بديلا تبدو فيه الخصومة مع شيء قدري، او تجسيدا لكل الهزل المختلط بالجد عن مؤامرة كونية يخطط فيها آلهة في اوليمب معاصر، كيف يحوّلون الشخص المقيم في بيته في حارة ضيقة من حواري القاهرة الى جحيم.
هروبا من هذا الجحيم تنظم الوقفة في ذلك الموعد ضغطاً من اجل اعادة الجنرال عمر سليمان. هناك آلاف لا تصدق آذانهم ان جنرالهم مات. وهم اعتبروه يخصهم لانه كان صمام الأمان الذي يعرف ما لا يعرفه غيره، وانه القادر دون غيره على اعادة جحافل الغزاة او الاخوان والاسلاميين الى جحورهم.
الجنرال يشرب القهوة في مخبئه، وهو يتابع كل تفصيلة ويرى كل شيء. يتجول في المتاجر وينهض من مقعده في دار مناسبات عسكرية، او يسافر الى الحج على مقعد متحرك وقوته خرافية. لكن "الشعب" يريد ظهوره الآن لا كما يخطط هو، او تفرض عليه مهمته في معركة الاباء في الجهات السيادية على مستوى العالم.
المواقع والصفحات تنادي الجنرال، وتنشر صوره، بينها صورة له في البرازيل، واخرى في اماكن غير محددة، لتثبت انه ما زال حيا، وأن عودته مؤكدة.
هؤلاء كانت عيونهم قد احمرت من البكاء على موت "البطل" الذي يعجز عن اقناع طفل صغير بعلامات هذه البطولة… ويكتفي بالاشارة الملغزة المعجزة "ستعرفون بطولته في ما بعد".
واذا ضغطت بعض الشيء فسيسرب لك صاحب العين الحمراء ما يوحي انه كان يحمينا من الخفافيش التي خرجت من المخابئ بعد الثورة… وتحكم الآن.
الاخلاق هنا تستخدم لحماية من تحمل مسؤوليته، اي من حمايته لديكتاتور وعصابته، ارتكب جريمة تجريف البلد من كوادرها، وحصار كل خيال خارج التوظيف، وقتل روح الابداع لمصلحة انحطاط (وهو وصف لحالة ثقافية وليس مجرد شتيمة).
الانحطاط هو المناخ الذي يجعل حكم العصابة طبيعياً، ويجعل جرائمها حكمة، وضيق افقها ذكاء، ومدير مخابراتها بطلا، وطيرانها تحت الرادار حكمة وعقلا.
الانحطاط بمعناه الذي يقطع الصلة بين الواقع وكل من الماضي والمستقبل.. يجعلها لحظة معلقة تحت ضغط الغرائز والشهوات قوة الامر الواقع… تجعل هناك من يرى في مدير مخابرات بطلا… وعلى الطرف الآخر… من ينتظر الانقاذ على يد خيرت الشاطر.
عمر سليمان رحل في اميركا بمرض نادر، او كما تقول الخرافات قتل في سوريا "بمؤامرة اقليمية على رجال مخابرات هذه المنطقة من العالم"… وهو نوع من الشخصيات تصنع الحكايات منها كيانات اسطورية، وتلقي السرية بظلالها الخرافية، فقد كانت صورة عمر سليمان ممنوعة من النشر حتى العام 2003 تقريباً. يومها نشرتها معاريف الاسرائيلية ولم تتخذ الصحيفة التي كنت اعمل فيها قرار النشر الا بعد التأكيد على انها منقولة من الصحيفة الاسرائيلية. وكان حتى هذا التاريخ تخلى قاعة مجلس الشعب من المصورين ساعة التجديد لعمر سليمان في موقعه في المخابرات. ومنحه العبوس والتجهم وهماً اضافياً كمن يحمل همّاً تراجيدياً او مهمة كونية… او تنحشر داخله مشاعر محبوسة تحت ثقل المسؤولية.
عمر سليمان لم يعرف بكل خبراته ان يلعب دور فلاديمير بوتين في روسيا، المقاتل الماكر الذي حافظ على بناء دولته الامنية بعد سقوط الشيوعية التي بنتها. بوتين مدير مخابرات قدم موديلا للانتقال… استوعب وضع روسيا… وهندس اقامته الطويلة بمراعاة طبيعة شعب خارج من قهر اباطرة الشيوعية.
لكن عمر سليمان فاقد لهذه الملكات او المواهب او القدرات خارج حدود مهماته. يشبه رئيسه وعصره. خرج بوجه كئيب بينما كانت الثورة ضاحكة وخفيفة ومبهجة فخسر صورته التي صنعت سنوات طويلة وبدت محدوديته واضحة بعد خروجه من الغرف المغلقة.
ورغم هذا فهناك اكثر من 25 الف مصري يهتفون "الله حي… الجنرال جي"، ويجهزون لاحتفالية/تظاهرة/وقفة تطالب بالظهور/التجلي، وهو نوع اغواء جديد على السياسة في مصر التي تغادر العقل الى كل ما يتعلق بالهوس، والتعدد السياسي هنا يبدو تعددا في بناء معابد الهوس الافتراضية فالمنتظرون لعمر سليمان يبنون دعايتهم على أن "عودته اقرب واصدق من عودة محمد مرسي".
المغادرة على "ميتافيزيقيا سياسية" ابطالها اما في القبور او السجون، هو خيال دوار يصنع فراغه، او يشغله بما لديه من خرافات ترد على الوهن الذي يفرضه واقع مرعب، تعيش فيه المدينة ايام الهوس الكبير.