دروس من تاريخنا| نكتة سياسية بارعة ساهمت في استقلال سوريا ولبنان (نزار صائب)
نزار صائب
لايمكن إنكار مقاومة الشعب السوري الإحتلال الفرنسي عام 1920. ومنذ اللحظة الأولى جرى في ذلك العام من الإحتلال محاولة اغتيال الجنرال غورو الذي نجى منها بأعجوبة، و تلا بعد ذلك في عام 1925 ثورات متتالية بدأت بالثورة الكبرى في جبل العرب وامتدت إلى دمشق فحلب فحماة وجبال الزاوية و العلويين والفرات. ثم قامت البلاد، في عام 1935، بإضراب مستمر مدة ستين يوماً، ودعيَ بالإضراب الستيني حيث أغلقت الأسواق والحال قي كافة المدن السورية لمدة شهرين. اضطرت بموجبه حكومة الإنتداب إلى إقرار المعاهدة السورية وإجراء إنتخابات نيابية وإعداد دستور ديمقراطي جمهوري لم يدم العمل به طويلاً بسبب ظهور بوادر الحرب العالمية الثانية. حيث أوقف المفوض السامي الفرنسي العمل بالدستور و شكل حكومة المديرين في عام 1939.
في ذلك العام سقطت فرنسا واحتلت باريس من القوات الألمانية، وألفت حكومة فرنسية خاصة للإحتلال في مدينة فيشي وسميت بحكومة فيشي. اعترض الجنرال شارل ديغول على حكومة الإحتلال في فيشي وتمرد عليها، وأعلن من لندن قيام حكومة فرنسا الحرة. ومن هناك أسس قوات فرنسا الحرة حيث اشتركت مع الجيش البريطاني في التاسع بقيادة الجنرال باكيت بقمع رشيد عالي الكيلاني والضباط الأربعة قادة الجيش العراقي الحر: صلاح الدين الصباغ وفهمي سعيد ومحمود سلمان وكامل شبيب ووزير الداخلية يونس السبعاوي، وفي عام 1941 عاد إلى العراق الوصي على عرش العراق ونوري السعيد من الأردن، وقام بإعدام الضباط الأربعة قادة الجيش العراقي.
وفي الثامن من حزيران عام 1941 ألقت الطائرات البريطانية والفرنسية التاسعة للجنرال ديغول منشورات على جميع الأراضي السورية واللبنانية موقعة من الجنرال كاثرو باعتباره ممثلاً لحكومة فرنسا الحرة، وتشير إلى إعلان إستقلال سوريا ولبنان وإنهاء الإنتداب إرضاء للشعبين ومحاولة لإسقاط الحكومة الفرنسية التابعة لحكومة فيشي وتطلب من الشعبين عدم مقاومة القوات البريطانية وقوات فرنسا الحرة.
وفي اليوم ذاته سارعت الحكومة البريطانية بإعلان موافقتها على بيان الجنرال كاثرو متحدثاً باسمها الجنرال باجيت قائد قوات الجيش التاسع البريطاني ومؤكداً العمل على استقلال سوريا ولبنان. إن ظروف الحرب العالمية الثانية أجبرت الحكومة الفرنسية الحرة على الوفاء بعهودها بإعطاء الحرية للشعبين السوري واللبناني بإجراء الإنتخابات النيابية في البلدين عام 1943، وأعيد العمل بالدستور وانتخب شكري القوتلي رئيساً للجمهورية السورية والشيخ بشارة الخوري رئيساً لجمهورية لبنان، وبقيت القوات البريطانية والفرنسية فارضة سيطرتها على الأمن مع بقاء نص في الدستور يسمح للمفوض السامي بالإعتراض على أي مرسوم أو قرار سواء كان صادراً عن الحكومة أو مجلس النواب. وقد عرفت هذه المادة في الدستور السوري بالمادة 146. وبهذا الوضع شاركت سوريا ولبنان في اجتماعات تأسيس الأمم المتحدة في سان فرنسيسكو ليك سكسيس ووقعت على الميثاق التأسيسي لجمعية الأمم المتحدة عام 1944.
إلا أن بوادر وضوح نتائج الحرب العالمية بانتصار الحلفاء حدا بالمفوضية الفرنسية في سوريا ولبنان لبدء التراجع عن الوعود بالإستقلال الناجز والتام، وطفقت تتدخل في الشؤون الداخلية وفرض سيطرتها مجدداً على التوجيهات الحكومية، وبلغت ذورتها في اعتقال أعضاء الحكومة اللبنانية مما أثار غضب الشارع اللبناني والسوري والعالم أجمع، مما أدى إلى تراجع المفوضية وعودة الحكومة اللبنانية.
استشعرت الحكومة والبرلمان السوري بالضغوط الفرنسية ومحاولة النكوص عن تعهداتها، فعمدت الحكومة ومجلس النواب إلى اقتراح يقضي بالغاء المادة 146 من الدستور والتي تعطي المفوض السامي حق النقض الفيتو على المراسيم والقرارات السورية، وجرى التصويت في المجلس النيابي السوري وتم الغاءها. رداً على ذلك، بادرت المفوضية الفرنسية بتاريخ 29 /5 /1945 باحتلال البرلمان السوري وقامت معركة بين حامية البرلمان من الدرك والشرطة والقوات الفرنسية، فقتلت هذه القوات جميع حراس البرلمان السوري وأغلقت أبوابه. اشتعلت الثورة الشعبية في كافة المدن السورية وقصفت المدن من قبل القوات الفرنسية خاصة في دمشق وحلب وحماه ودير الزور، وتصادعت المعارك بين القوات الفرنسية والمجاهدين حتى اضطرت القوات البريطانية بعدها للتدخل ووقف القتال وفرض الهدنة، وأقامت حواجز لحماية الثكنات الفرنسية.
عرفت دمشق بأنها مركز الإفتاء لجبل عامل ولشيعة سوريا ولبنان بسبب إقامة المجتهد الأكبر محسن الأمين فيها، وقد سمي الحي الذي سكنه المجتهد الأكبر على اسمه "حي الأمين" والذي ما يزال حتى الآن حياً من أحياء دمشق التراثية القديمة. وعندما كرمته الحكومة السورية بعد الإستقلال نظراً لمواقفه الجهادية والوطنية بمنحه أرضاً يبني عليها مركزاً لإقامته وداراً للإفتاء لكنه آثر التبرع بها لإقامة مستشفى، وبقي هذا المستشفى معروفاً بمستشفى المجتهد تيمناً بإسمه حتى اليوم.
بعد تخرج إبن المجتهد الأكبر عبد المطلب الأمين من كلية الحقوق بدمشق عين في وزارة الخارجية، وجاءت الصدفة أنه أفرز إلى السفارة السورية في موسكو في عام 1944. وللصدفة مرة أخرة أنه أصبح قائماً بأعمال السفارة السورية لدى الإتحاد السوفيتي. بعد أشهر من هذا التعيين كقائم بأعمال للسفارة السورية طلب مقابلة وزير خارجية الإتحاد السوفيتي أنذاك مولوتوف الذي عرف بأنه الرجل ذو المطرقة الحديدية وكما يقال بالعامية وجهه لا يضحك للرغيف السخن وكرر عبد المطلب عدة مرات وبإلحاح على الخارجية السوفياتية لمقابلة وزير الخارجية، وبعد أن استفسر مولوتوف أين تقع سوريا على خريطة العالم وأمام إلحاح القائم بالأعمال المتواصل وإرضاء لفضوله وافق على مقابلة عبد المطلب الأمين.
كان وجه مولوتوف عبوساً قمطريراً عند بدء المقابلة مع عبد المطلب الأمين، فبادر بسؤاله ماذا تريد؟ أجاب عبد المطلب بابتسامة إنني باسمي واسم حكومتي وباسم الشعب العربي السوري أطمئن حكومتك وشعبك بأنه ليس لدينا أية مطامع استعمارية في الإتحاد السوفياتي. انفجر مولوتوف ضاحكاً ولم يتوقف عن الضحك ويعيد ويسأل عبد المطلب ماذا تقول؟ ليس لديكم مطامع في الإتحاد السوفياتي؟ ويعاود الضحك، وبعد أن هدأ مولوتوف سأل عبد المطلب ماهي قصتك؟ أجاب عبد المطلب إذا لم يصدمك ما قلته لك عن عدم رغبتنا باستعمارنا للإتحاد السوفياتي، إذن فلماذا تراقبني الأجهزة الأمنية السوفياتية KGB صباح مساء ولا تترك لي فرصة التنفس؟
بعدها بدأت رحلة الصداقة بن الرجلين، وأمر مولوتوف بالكف عن مراقبة السيد عبد المطلب الأمين، وأصبحت الحفلات الديبلوماسية التي يتواجد فيها مولوتوف لا يلبث أن يبحث فيها عن عبد المطلب الأمين ويترك الجميع ليسأله عن أحواله وعن حياته في موسكو وهو الشاعر والأديب والراوي في العربية والفرنسية، فيصف عبد المطلب بظرفه ويروي أخر النكات في الشارع السوفياتي، هذا المشهد المتكرر في الحفلات الديبلوماسية وطد الصداقة بين الطرفين.
بعد الإعتداء على البرلمان السوري في 29 أيار 1945 وقتل جميع حراسه، والمعارك التي جرت في كافة المدن السورية مع القوات الفرنسية والبريطانية المتواجدة في سوريا ولبنان ومنحهما الإستقلال التام والناجز، خاصة وأن الدولتين وقعتا وثيقة تأسيس الأمم المتحدة وتولى رئاسة الوفد السوري دولة الأستاذ فارس الخوري. وهنا لا بد أن نشير الى أن تلازم المسارين السوري واللبناني وجد طريقه بتكليف فارس الخوري من قبل وزير الخارجية اللبناني السيد تقلا بالتحدث عن البلدين دونما حساسية بالسيادة والإستقلال من قبل الحكومة اللبنانية، بل على العكس الإعتراف بأهمية الرئاسة للمناقشات في مجلس الأمن للسيد فارس الخوري الذي أظهر براعة متميزة في حواره مع العالم بحق الشعوب بالإستقلال، كما اتسمت تصرفاته بالظرف والنكتة المعبرة والجملة ذات المعنى والمغزى العميق؟ وعلى سبيل المثال في إحدى جلسات المجلس فوجيء الجميع بجلوس فارس الخوري على المقعد المخصص للمندوب الفرنسي الذي انتظر عدة دقائق وهو ينظر إلى فارس الخوري طالباً منه أن يخلي المقعد المخصص للوفد الفرنسي، وهنا وقف فارس الخوري مخاطباً المجلس: لقد احتليت المقعد الفرنسي لعدة دقائق فضاق ذراعاً فكيف يتحمل الشعب السوري 25 عاماً من الإحتلال؟ أما آن الآوان لهم أيضا إعطائنا مقعدنا في العالم؟
وفي مداخلة أخرى حول وجود القوات الفرنسية والبريطانية في سوريا ولبنان وأولوية الإنسحاب منهما هل الفرنسية أم البريطانية؟ روى فارس الخوري في المجلس القصة التالية : أن أحد مراقبي الطرق مر ليلاً بطريق حيث وجد فانوساً مضيئاً فوق كومة من الحجارة، فسأل عن سبب وجود هذا الفانوس فقيل له لتنبيه السيارات من الحجارة ولما سأل لماذا الحجارة موجودة، فقيل له لتسند القانوس، فكان المعنى واضحاً لعدم الضرورة لكلا القوتين الفرنسية والبريطانية في بلادنا.
إن الصداقة التي ربطت مولوتوف وزير الخارجية الإتحاد السوفياتي بالقائم بالأعمال السوري في موسكو السيد عبد المطلب الأمين جعلت وزير الخارجية أن يكشف لعبد المطلب الأمين عن الإتفاق الفرنسي البريطاني الذي تم بين وزير الخارجية البريطاني بيقن والفرنسي بيدو الذي جرى في 13 /12/ 1945 بحيث تبقى القوات الفرنسية والبريطانية في سوريا لمدة سنتين على الأقل ومن ثم ينظر في أمر انسحابها لاحقاً. وهنا طالب عبد المطلب الأمين صديقه الوزير السوفياتي بالتدخل لإفشال هذا المخطط، واستشهد بمبادئ الإتحاد السوفياتي بالدفاع عن حقوق الشعوب بالإستقلال والحرية وإنهاء الإستعمار والمبادئ الماركسية في اتحاد الشعوب ضد الرأسمالية البشعة. ضحك مولوتوف وقال لن يخيب ظنك، وأعطى تعليماته لمندوب الإتحاد السوفياتي في مجلس الأمن المستر فيشنسكي باستعمال حق النقض الفيتو ضد الإتفاق الفرنسي البريطني، والسعي لإصدار قرار بالإنسحاب الكامل من الأراضي السورية واللبنانية فوراً، وهكذا كان. فصدر قرار مجلس الأمن الدولي في 16/ 2/ 1946 القاضي بانسحاب القوات الفرنسية والبريطانية، وتم انسحاب الفرنسيين من سوريا في 17/ 4/ 1946، واعتبر هذا التاريخ عيد الإستقلال السوري، وتم انسحاب القوات الفرنسية من لبنان في 22 /11/ 1946 عيد استقلال لبنان.
وهكذا لعب الجندي المجهول عبد المطلب الأمين الدور الكبير بظرفه وخفة دمه دوراً أساسياً في استقلال البلدين.