الدخول من خرم الإبرة
قيل ـ والعهدة على الراوي ـ أنّ الرجل الذي “أهدى” البوعزيزي علبة كبريت و”طاسة” من البنزين، قد صار يطالب بنصيبه من “غنيمة الثورة” كواحد من الذين أسهموا في إشعالها، وأهدوا شعبهم شرارة الحرية مثل “بروميثيوس تونسي” بامتياز.
ذكّرتني الحادثة بقصّة اليهودي الماكر الذي قصد مبنى الفاتيكان وطلب مقابلة البابا لأمر هام وعاجل يتعلّق بسمعة المسيحيين في العالم، وحين كان له ما أراد، أخرج من جيبه ورقة رثّة، باهتة الأرقام وخاطب سيّد الفاتيكان بقوله “هذه فاتورة العشاء السرّي الذي أقامه نبيكم مع تلاميذه وحوارييه في مطعم جدّي الأول يا قداسة البابا، ثم غادروا دون أن يدفعوا الحساب.. لعن الله النسيان وبارك في الذي أوفى بدين تعلّق في ذمّة أهله وأحبّائه أيها الحبر الأعظم”.
هكذا وبكل بساطة المنطق فإنه يسهل تطويع أيّ حادثة مهما كانت فرادتها وغرابتها، شرط أن تلوي عنقها بلين وسلاسة، حتى تدخل حيز الإقناع وتكتسب صفة الحجّة والبرهان.. ومن ثمّ الحكم والتنفيذ.
ولدت الحقيقة حمّالة أوجه ومطيّة للتأويل نحو جميع الاتجاهات، فيذهب بها كلّ إلى مآربه ما دام يمتلك ناصية اللغة في المواربة والتبرير، أمّا من فقد ذلك واكتفى بمسك الحقيقة وحدها، فإنّه كمن يمسك بشمعة من جهة فتيلها.
إذا كنت تتوجه بشكواك إلى الخصم والحكم، فاعلم أنّ حجته “مقنعة” بالضرورة، ومهما بلغت من الشطط والرعونة، كحادثة أولئك الذين قصدوا الخليفة العباسي الملقّب بالسفّاح يريدون بناء جامع في حيّهم، لأنهم يقطعون أميالا كثيرة لأجل الصلاة في جامع المدينة البعيد، فأجابهم “إنّ مشقّتكم هذه ثواب عند الله، ويحكم، أوَتتجنبون رضاه وثوابه عزّ وجلّ؟”، فعادوا أدراجهم خائفين من عقاب الخليفة بتهمة التهرّب من ثواب الله.
لولا الخوف لردّ أحد أعضاء هذا الوفد على الخليفة بقوله “ولماذا لا تأمر المصلّين في الجامع البعيد بالصلاة في جامع أبعد، وهكذا يعمّ الثواب كلّ المؤمنين جزاء مشقتهم؟”.
إنه الخوف الذي يغتال المنطق ويجعل الحقيقة عذرا باهتا دائما في حضرة أهل السلطان، وحين ينكسر حاجز الخوف بعد غبن طويل، تشطّ المطالب، وعندئذ تخاف الديمقراطيات الناشئة من عدم مسايرة الموجة.. ويتجرّأ صاحب الكبريت والبنزين على هذا المنطق، أمّا لو كان في الحكومة واحد مثل “السفّاح” لحاكمه بتهمة المساهمة في إزهاق روح.. أما كان للثورة أن تشتعل دون احتراق؟