قطعة جحيم…لهذه الجنة
“المحبون في أزمنة الفراق يصنفون من ذوي الاحتياجات الخاصة”
__________________________________________
احتفل اليوم بصدور رواية جديدة، أنا كاتبها وأحد شخصياتها، في زمن الحرب. بهذاالعنوان. وأود، ويسرني أن أقدم بعض الإشارات فيما يلي عن أجوائها.
المقطع المنشور هو عن حالة احتجاز بسبب هوية مكسورة، عانى السوريون كثيراً جراء الشبهة المترتبة على هوية مكسورة. حيث كان الشيخ العرعور يحرض السوريين على كسر هوياتهم ،توريطا لهم بالصدام مع السلطة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
“النجاة مرة أخرى…
حسناً، ولكن ما هو هذا النوع من النجاة؟هذا النوع من الحياة؟ وكيف هو مستوى الأهوال التي يخلقها ويبدع شرورها، ويؤسس لجريمتها…ذلك التنكيل بأشخاص ممن ذنبهم أكبر من هوية مكسورة؟ بما في ذلك، خاصة، التنكيل الذي يحل بشبان صغار انخرطوا في تجربة التعبير عن الرأي بالصراخ، وعن الرغبات بالتظاهر، وعن العنف المخزون بالسلاح؟
“أحد الفتيان، وعمره (16 سنة) في إحدى الديكتاتوريات، في هذه العالم، قال لزملائه،وهو يساق إلى الإعدام:
لدي ما أقوله لكم، أتعلمون ما هو؟ أنا لم أمارس الحب قط، وهم سيقتلونني الآن دون أن أكون قد عرفت هذا الشيء”.
وفي البرازيل، عندما كانت الديكتاتورية العسكرية تجرب كل أشكال ترويض البرازيليين وإخضاعهم…صدر أمر قضائي غريب:
القاضي صنّف القبلات الممنوعة، وأشد هذه العقوبات كانت على “القبلة السينمائية”، وهي التي يختلط فيها لعاب الشفتين، في إفاضة حسية، غير محتشمة.
العاصمة ريو دي جانيرو…ردت على الأمر القضائي بالإكثار من التقبيل في الشوارع والحدائق، وأحياناً بحشود جماعية مع رقصة السامبا.
بتذكر هذه القصة… وقعت في متلازمة معنّدة ، وهي تحديقي المرضي المشفق بوجوه الفتيان الصغار القتلى، من الطرفين، التي تعرضها التلفزيونات، بروح الانتصار، حيث فريقا القتال يحتقرون جثث بعضهم البعض… أحدق بوجوه صبيان، معفرة بالتراب، انتهت صلاحيتها، إلى الأبد، في احتمال الحصول على القبلات، على الطريقة البرازيلية في مقاومة الديكتاتورية.
لقد مات الكثيرون من الفتيان السوريين، ليس فقط دون حب، ودون الحصول على قبلة أولى… لقد ماتوا دون لذة الحصول على شهادة أولى، ومتعة قبض الراتب الأول، والكتاب المدهش الأول، والانضمام إلى نادي رياضة أول. لقد مات الكثيرون دون أذن، أو انف، أو عضو ذكري.
ماتت، وهذا هو الأهم، القيمة المعيارية للرحمة. وأصبح التنكيل بالعدو… مذهباً.
إن الديكتاتوريات صانعة حروب، لا محالة، وكما قال الكواكبي: الطغاة أبواب الغزاة.
وهي عندما تصنع الحرب لا تبالي بالتفاصيل، حين يصبح كل شيء مبرراً، وأكثر أنواع التبرير جريمة هو حدوثها.
كنت في طريقي إلى البيت أكثر احتمالاً للألم، وأنا أتذكر حارس الغابات، رجل الصواعق الذي كانت مهمته التبليغ عن احتمالات الحرائق، وعن حدوثها.
الحارس الذي عاش حياته كلها في لحظات متكررة من الشكر… كل أنواع الشكر على نجاته من الحوادث، حيث أصبح يقيس سنواته بأذيات الصواعق الخفيفة.
النجاة الأولى…انتزعت الصاعقة ظفراً من قدمه.
والثانية…أطاحت برموشه وحاجبه.
والثالثة…شوت كتفه الأيسر، والرابعة تركته بلا جلد، وشقت صاعقة أخرى قدمه اليمنى، وفحّمت صدره إحداهن… ولم يحصِ، لفرط حدوثها، تفاهات لهب أخرى، لصواعق أخرى.
لكن هذا الحارس كان لا بد أن يموت بصاعقة أخيرة، وحين فتشوا جيوبه، وجدوا في أوراقه هذا السطر الأخير.
“ها أنذا أموت دون أن أكون قد عرفت ذلك…الشيء”.
واتخذت قراري…
سأغادر هذه البلاد ولن أعود إليها، حتى يصبح من حق السوري احتساء الرحيق من شفتي الحب…كاملاً وعلناً.
وأدق من ذلك… حتى تصبح هذه البلاد من النوع الذي يضع على مداخل مدنه كلها، بدلاً من صور الرئيس، أي رئيس، هذه اللافتة بخط رقعي واضح: “أنت بريء، حتى يُثبت الله شخصياً أنك متهم”.
وحتى يصبح لجملة غسان كنفاني معناها: “أتعلمين يا حبيبتي ما الوطن؟ الوطن هو ألا يحدث ما يحدث كله”.