البحث عن الأسباب الاجتماعيّة الأعمق للانتحار
حين استخدم عالِم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم Émile Durkheim مصطلح “الأنوميا” L’anomie، قصد بذلك توصيف حالات عدم الاستقرار والاضطّراب والقلق التي تسود المجتمع بفعل غياب القيَم الأخلاقيّة والدينيّة والمدنيّة، وما يُرافق ذلك من شعور لدى الأفراد بعدم الاستقرار والاغتراب. هذا المصطلح الذي استخدمه دوركهايم في العام 1893 في مؤلّفه “التقسيم الاجتماعي للعمل” De la division du travail social، شكّل الإطار الاجتماعي لتوصيف الوضع المجتمعي المُساعد على الانتحار، وذلك في كتابه الشهير “الانتحار” Le Suicide الصادر في العام 1897. ولئن كان دوركهايم قد استند في كتابه إلى منهج أمبيريقيّ إحصائيّ في دعم فرضيّاته حول الانتحار آنذاك، فإنّ علماء اجتماع كثراً استندوا إلى عمله لتطوير فرضيّاتهم ونظريّاتهم حول هذه الظاهرة.
أمّا عن مناسبة العودة إلى دوركهايم وكتابه الكلاسيكي هذا، فهي مرتبطة بحالات الانتحار (أي القتل المتعمِّد للنّفس) التي لا تني تزداد حول العالَم اليوم، وصدور أوّل تقرير من نوعه عن منظّمة الصحّة العالميّة حول الانتحار في العام 2014 بعنوان “الوقاية من الانتحار ضرورة عالميّة”، وذلك للقول إنّ الانتحار مسألةٌ يمكن الوقاية منها، ولاسيّما أنّ شخصاً واحداً في مكانٍ ما حول العالَم يموت كلّ 40 ثانية من جرّائه، وأنّ هناك أناساً كثراً يحاولون الانتحار، فضلاً عن مجيء بعض الدول العربية في مراكز متقدّمة من الدول التي ترتفع فيها معدّلات الانتحار؛ إذ يشير التقرير إلى أنّ البلدان المنخفضة والمتوسّطة الدخل هي التي تتحمّل معظم العبء الناجم عن عمليّات الانتحار على الصعيد العالَمي، ويقع ما يقدّر بـ 75 % من جميع حالات الانتحار في هذه البلدان. وقد تصدّرت السودان قائمة الدول العربيّة في حالات الانتحار؛ إذ بلغ معدّل المنتحرين فيها نحو 17.2 لكلّ 100 ألف من السكّان، مُسجِّلة بذلك أعلى معدّل انتحار في العالَم، بحيث يُقارب معدّل الانتحار فيها معدّل قارّة آسيا كاملة. وتلت السودانَ المغرب بمعدّل 5.3، وقطر بمعدّل 4.6، ثمّ اليمن بمعدّل 3.7، والإمارات بمعدّل 3.2.
أمّا في تونس، ووفقاً للتقرير السنوي لـ “المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية”، وهو بعنوان “حالات الانتحار ومحاولات الانتحار خلال 2015″، فإنّ 549 تونسياً أقدموا على الانتحار خلال العام 2015، من بينهم 27 مسنّاً تونسياً، فضلاً عن انتحار 54 طفلاً، من بينهم 52 كانوا دون سنّ الخامسة عشرة وأغلبهم تلاميذ من جهة القيروان. هؤلاء حاولوا الانتحار أو أقدموا عليه طيلة السنة. كما تصدّرت ولاية القيروان المرتبة الأولى للعام الثاني على التوالي، بتسجيلها 89 حالة انتحار.
بحسب دوركهايم، ترتبط ظاهرة الانتحار في مجتمع معيّن بدرجة اندماج أفراده فيه (بدءاً من الاندماج في المجتمع الديني، والمنزلي أو الأسري، وصولاً إلى المجتمع السياسي ككلّ أو الأمّة)، بمعنى أنّ وتيرة الانتحار ترتفع مع تراجع وتيرة الاندماج في المجتمع.. والعكس صحيح. وقد ربط دوركهايم الانتحار بأسباب اجتماعيّة، فلاحظ انطلاقاً من مفهوم “الاندماج” هذا، أنّ الانتحار يتراجع مع تعاظم الشعور الوطني، ولاسيّما في اللّحظات التي يكون فيها هذا المجتمع في خطر. لكنّ موريس هالبواكسMaurice Halbwachs، عالِم الاجتماع الفرنسي المعروف، وفي متابعته ظاهرة الانتحار، أكّد بعض مقولات دوركهايم ودحض بعضها الآخر أو طوّره. وانطلاقاً من معطيات الحرب العالميّة الأولى، وبالاستناد الكبير إلى المعطيات الإحصائيّة، أكَّد هالبواكس، شأن دوركهايم، أنّ الأمراض النفسيّة ليست السبب الوحيد المفسِّر لظاهرة الانتحار؛ وتبيّنَ له تراجُع حالات الانتحار بين المدنيّين من الجنسَين في الحرب، ومن مختلف الأعمار، مقارنةً بأيّام السِّلم، مضيفاً تأويلاً اجتماعيّاً آخر للظاهرة، مفاده أنّ دَور الحرب لا يقتصر على إثارة الشعور الوطني بشكل مفرط فحسب، بل على تحويلٍ عميق للمجتمع؛ وبالتالي إذا كانت حالات الانتحار أقلّ فهذا يعود في جزء منه إلى نمط الحياة الذي يكون أكثر تجانساً، بحيث تقلّ الاحتكاكات والتصادمات بين الأفراد، ما يعني أنّ ثمّة فرصاً أقلّ للسخط واليأس.
أنطلقُ من هذه الخلفيّة للتأكيد على أمرَين: أوّلهما التراكم المعرفي والعلمي في تناول القضايا الاجتماعيّة في الغرب. وهذا ما يؤكّده مؤلَّف موريس هالبواكس “أسباب الانتحار” (1930) Les causes du suicide، والذي يشير فيه إلى ببليوغرافيا غير مكتملة آنذاك مؤلّفة ممّا لا يقلّ عن 3.771 مرجعاً حول مسألة الانتحار؛ ما يعني أنّ هذه الظاهرة أخذت حقّها من الدراسة والبحث، ولاسيّما في ظلّ تطوّر وسائل البحث الكمّي والإحصائي.
أمّا الأمر الثاني الذي رغبنا في تبيانه والانطلاق منه، فهو توافر القاعدة الإحصائيّة التي سمحت لعلماء الاجتماع، ومن أبرزهم دوركهايم، الذي يُعتبر من المؤسّسين في عِلم الاجتماع، ببناء منهجه السوسيولوجي القائم على الملاحظة، والفهم، والتفسير، والذي سانده توفّر الدراسات والأبحاث حول الموضوع المُعالَج من ناحية، والمعطيات الكمّية من ناحية ثانية، والتي انطلقَ منها لإجراء تصنيفاته ومقارناته عبر تفسير الروابط والعلاقات القائمة بين تكرار الأفعال الفرديّة والأطر الاجتماعيّة بشكل علميّ، لا تزال بعض منطلقاته النظريّة وأدواته وخلاصاته صالحة لغاية اليوم. فنتائج تقرير “منظّمة الصحّة العالميّة” حول الانتحار، الذي سبقت الإشارة إليه، وخلاصاته لم تكن بعيدة عن خلاصات دوركهايم العائدة إلى أكثر من قرن من الزَّمن، وهو ما يؤكّد مشروعيّة الأُسس العلميّة في دراسة الظواهر الاجتماعيّة، ومنها ظاهرة اجتماعيّة مُلازِمة لتاريخ الإنسانيّة كظاهرة الانتحار في العالَم؛ إذ كان دوركهايم قد أكّد أنّ الانتحار ليس ناجماً عن اضطراب عقليّ، أو عن انتماء عرقي معيّن، أو عن مناخ طبيعي معيّن، وإن كانت هذه العوامل من الأسباب المُساعِدة على الانتحار؛ ذلك أنّ السبب أو مجموعة الأسباب المفسِّرة لهذه الظاهرة لا تكمن في المستوى النفسي، أو النفس اجتماعي، بل تكمن في الاجتماعي نفسه. فقد فنّد دوركهايم آنذاك فرضيّة “مورسيلّلي” Morselli وغيره من العلماء القائلة بتأثير المناخ الطبيعي والانتماء العرقي على الانتحار قائلاً في كتابه “الانتحار”: “لئن ارتفع عدد الأموات المُنتحرين إراديّاً من شهر كانون الثاني وحتّى تمّوز، فإنّ ذلك لا يعود إلى أنّ الحرارة تُمارِس تأثيراً مشوِّشاً على الكائنات الحيّة، بل لأنّ الحياة المجتمعيّة أضحت أكثر كثافة وشدّة”؛ و”إذا كان الألمان يُقبِلون على قتل أنفسهم أكثر من غيرهم من الشعوب الأخرى، فإنّ السبب لا يكمن في الدمّ الذي يجري في عروقهم، بل في الحضارة التي نشأوا فيه”؛ كما فنَّد دوركهايم فرضية أطباء الأمراض العقليّة، مثل إسكيرول Esquirol وفالريه Falret ومورو Moreau، في أنّ سبب الانتحار ناتج عن اضطرابات عقليّة، قائلاً: “ليس لأنّ مجتمعاً معيّناً يضمّ عدداً أكبر أو أقلّ من المرضى العصبيّين أو من المُدمنين على الكحول، يرتفع عدد المُنتحرين فيه أو ينخفض”؛ ويستخلص أنّ “الانتحارات العائدة إلى اضطرابات عقليّة، هي، إمّا انتحارات مجرَّدة من أيّ دافع، وإمّا محدَّدة بدوافع متخيَّلة بكلّ معنى الكلمة. والحال أنّ عدداً كبيراً من الوفيّات الحاصلة بسبب وفاة إراديّة لا يندرج، لا في هذه الفئة ولا في تلك؛ فغالبيّة هذه الوفيّات هي ذات دوافع لها قاعدتها أو أساسها في الواقع. ونحن لن نستطيع، من دون إساءة استخدام الكلمات، أن نرى مجنوناً في كلّ مُنتحِر”.
وعلى الرّغم من أنّ تقرير”الوقاية من الانتحار ضرورة عالميّة” هو تقرير ذو أهداف توعويّة وقائيّة، إلّا أنّ أهمّيته تكمن في منهجه العلميّ وطُرقه الإحصائيّة. فالانتحار – كما جاء في التقرير – “يحدث في كلّ مناطق العالَم وفي مختلف مراحل العُمر. وبشكل خاصّ، نرى أنّ الانتحار يحتلّ المرتبة الثانية بين أهمّ أسباب الوفاة بين الشباب في الفئة العمرية 29-15 سنة على مستوى العالَم”. و”في حين أنّ العلاقة بين الانتحار والاضطّرابات النفسيّة مُثبتة جيّداً، ثمّة تعميمات واسعة لعوامل الخطر. وتوضِح الأدلّة المُتزايدة أنّ السياق ضروري لفهم خطر الانتحار”. لذا يضع التقرير الاضطرابات النفسيّة من ضمن عوامل الخطر الفرديّة مثل “محاولة انتحار سابقة”، “استهلاك الكحول وغير ذلك من مواد الإدمان على نحو ضارّ”، “فقدان العمل والمال”، “اليأس”، “الألم المُزمن والأمراض المُزمِنة”، “تاريخ عائلي للانتحار”، “العوامل الوراثيّة والبيولوجيّة”؛ لكن من دون أن يجعل من هذه العوامل أسباباً محدِّدة للظاهرة.
أمّا المعتقدات الدينية أو الروحية، فهي ولئن منحت الحماية ضدّ الانتحار، إلّا أنّها ليست العامل الوحيد المحدِّد لعدم الإقدام على قتل النَّفس: “عند اعتبار أنّ المعتقدات الدينية أو الروحية تمنح الحماية ضدّ الانتحار، فمن الضروري توخّي الحذر. فقد يكون الدين نفسه عاملاً من عوامل الحماية، لأنّه يوفِّر عادةً نظام الاعتقاد المنظَّم ويمكنه الدّفاع عن السلوك الذي يمكن اعتباره مفيداً جسدياً ونفسياً. ومع ذلك، فقد أسهم أيضاً الكثير من الأديان والمعتقدات الثقافية في الوصم المرتبط بالانتحار بداعي المواقف الأخلاقية تجاهه، والتي يمكن أن تثبط سلوكيات طلب المساعدة. قد تنشأ القيمة الوقائية للدين والروحانية من توفير سبل الوصول إلى مجتمع متماسك وداعم يتمتّع بمجموعة مشتركة من القيَم. كما أنّ العديد من الجماعات الدينية تحظّر أيضاً عوامل الخطر التي قد تؤدّي إلى الانتحار مثل استهلاك الكحول. ومع ذلك، فإنّ الممارسات الاجتماعية لبعض الأديان قد شجّعت أيضاً على حرق النفس بالنار بين جماعات معيّنة، مثل النساء في جنوب آسيا اللّائي فقدن أزواجهنّ. لذلك، في حين أنّ المعتقدات الدينية والروحية قد تقدِّم بعض الحماية ضدّ الانتحار، إلّا أنّ هذا يعتمد على الممارسات والتفسيرات الثقافية والسياقية الخاصّة”. وهذا ما يعني في النهاية، أنّه إذا كان بعض الناس في منطقة معيّنة ينتحرون أكثر من البعض الآخر في منطقة أخرى، وإذا كانت الأمراض العصبيّة والإدمان على الكحول والمخدّرات من الأسباب التي تساعد على الانتحار، وإذا كان الدّين من العوامل المساعدة على عدم الانتحار، فإنّ هذه العوامل كلّها ليست في النهاية أسباباً محدِّدة للظاهرة، لأنّ ثمّة أسباباً اجتماعيّة أعمق للانتحار، هي التي ينبغي التفتيش عنها كما سبق لرائد علم الاجتماع إميل دوركهايم أن أعلن منذ اكثر من قرن من الزّمن.
نشرة أفق ( تصدر عن مؤسّسة الفكر العربي)