السلطة مفسدة
ما تزال هذه العبارة التي قرأتها للعالم الأنتروبولوجي الفرنسي ” بيير كلاستر ” في ذهني و هو يصف هجرة مجموعة كبيرة من العشائر البدائية بقوله الهام : ( هكذا سوف ترغم هذه المجموعة الكبيرة من البشر بعد أن كانت عشيرة صغيرة إلى البحث المضني عن أرض أسخى في عطائها الزراعي و الحيواني لضمان عيش هذا العدد الكبير من الناس و بالتالي إلى تغيير نظام الإدارة الذي كان سائدا من قبل أن تتضخم العشيرة إلى عشائر والذي كان أقرب إلى النظام الديمقراطي كي يغدو أقرب إلى النظام الاستبدادي ).
قلت في نفسي و قتئذ أنني عثرت أخيرا على العهد التاريخي الذي ظهرت أو سوف تظهر منه ظاهرة الأستبداد في الحكم حين فسرت ملاحظة ” بيير كلاستر ” الآنفة الذكر أن ضخامة العدد الذي آل إليه التجمع العشائري ذاك هو الذي سيؤدي – كما حدث ذلك فيما بعد – إلى إستخدام حكم الاستبداد ذلك لأن مجلس مشايخ العشيرة الذي كان يحكم من قبل بأسلوب التشاور بين حكماء العشيرة كان ممكنا و ضروريا بسبب العدد القليل نسبيا لأفراد العشيرة التي تكاثرت مع الزمن إلى عشائر متقاربة (تحدث عندئذ في تجمع واحد كبير صار الأمر بعده دافعا إلى تغيير الأسلوب القديم في الحكم مع بروز مشكلات إجتماعية و إقتصادية و حربية في آن واحد بسبب هذا التغيَر الهائل في التكوين البشري مع العدد الكبير الذي آلت إليه تلك العشائر مما دفع المغامرون الكبار في قيادة هذه الهجرة السكانية الكبرى إلى إتخاذ القرارات السريعة لمواجهة الأخطار الكثيرة المحتملة مما لا يتناسب كما يبدو مع الأسلوب التشاوري البطيء عادة في إتخاذ قرارات و هكذا برز القائد المحارب الأكثر قوة و جسارة و حكمة لاحتلال منصب الحاكم الأوحد الذي اختارته العناية الإلهية كما كان يدعي ذلك الحاكم و أنصاره .
هكذا ظل البشر يعانون من سلطة الحاكم المستبد حتى العصور الحديثة ليس لدى شعوب العالم الثالث المتخلف بل حتى لدى الأمم الأوروبية التي ما يزال بعضها يعاني من هذه الظاهرة و كأن الوصول إلى السلطة يغير من أخلاق الذين استولوا عليها ، و كأن السلطة بحد ذاتها مفسدة لا ينجو منها حاكم و هذا ما يفسر حيرة المفكرين في معالجة هذه الظاهرة ووفرة الكتب التي ألفوها لمعالجة هذه الفكرة : (( هل الاستبداد في الحكم غريزة في طبيعة النفس البشرية و أن الوصول إلى الديمقراطية الصافية من كل عيوب السلطة الجائرة غاية شبه مستحيلة ؟!..
لا شك في أن الجواب على هذا السؤال الصعب موجود لدى شعوب أخرى غير عربية و لا إسلامية و أن العرب و المسلمين عامة مطالبون أكثر من غيرهم بالبحث عن الديمقراطية و اتخاذها أخيرا نظاما لحكوماتهم المضطربة بسبب حرمانها من الأسلوب الديمقراطي منذ آلاف السنين ، و ما يزالون …