إيران في اليوم التالي لإبرام «الصفقة النووية» (مصطفى اللباد)
مصطفى اللباد
تبدو «الصفقة النووية» المحتملة بين إيران والدول الست الكبرى، سواء من حيث الملامح أو التداعيات، واضحة بين سطور الأوراق البحثية وثنايا الحلقات النقاشية في مراكز الأبحاث الأميركية، وليس كما يعتقد في بلادنا على نطاق واسع، بأن الصفقة محض «مؤامرة تُدبر بليل» في غرف مظلمة لتخرج كمفاجأة للمنطقة والعالم. انتقلت مراكز الأبحاث الأميركية من التنظير لضرورة التفاوض مع إيران، إلى مرحلة تصور اليوم التالي لإبرام «الصفقة النووية»، وما يعنيه ذلك من ضرورة اجتياز مرحلة سابقة أساسية تتمثل في تصور الحل الديبلوماسي الممكن من المنظور الأميركي. تعمل مراكز التفكير في الولايات المتحدة الأميركية بأقصى طاقتها راهناً للتفاعل مع التطورات الجارية في المفاوضات النووية بين إيران والدول الست الكبرى، بحيث تنظم هذه المراكز جلسات عصف ذهني وتقوم بإعداد أوراق بحثية وتعقد حلقات نقاشية لبلورة رؤى وسياسات أميركية للتعامل مع الملف النووي الإيراني. وتعد قوة مراكز التفكير انعكاساً للقوة الشاملة لأي دولة، ومؤشراً لا يخطئ على اتساع قاعدتها البحثية والعلمية. لذلك تبدو متابعة الملف النووي الإيراني قاصرة، من دون الإحاطة بمنتجات مراكز الأبحاث الأميركية حول الموضوع، والتي تتناول بالتحليل والاستشراف المراحل القادمة من المفاوضات، وليس بالضرورة تفسير ما جرى.
منع إيران من التسلح النووي
نشر معهد «بروكنغز» الأسبوع الماضي ورقة بحثية جديدة عنوانها: «منع إيران مسلحة نووياً»، من تأليف روبرت أينهورن، استقطبت الكثير من الاهتمام في أميركا. للمؤلف سجل حافل في موضوع البحث، فقد كان مستشاراً خاصاً لنزع التسلح في وزارة الخارجية الأميركية خلال الفترة الواقعة بين عامي 2009 و2013. لذلك، ينظر إلى نصائحه باعتبارها ذات حيثية كبيرة في واشنطن. تنطلق الورقة من إمكانية الاتفاق بين إيران والدول الست قريباً، لكنها تركز على الضمانات الممكنة التي يمكن للمفاوض الأميركي اللجوء إليها في المفاوضات مع الجانب الإيراني. ويعتقد أينهورن أن المتطلبات المفتاحية لأي اتفاق مقبول مع إيران تتلخص في ضرورة منعها من القدرة على الاختراق التقني، عبر التحول لاحقاً إلى قوة نووية عسكرية. وإذ تمنع معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية الدول الأعضاء من حيازة السلاح النووي، إلا أنها لا تمنعها من امتلاك منشآت للتخصيب. بالتالي، تلخصت المهمة الدقيقة للمفاوضين الغربيين في إقناع الإيرانيين بقبول التقييد على استعمال هذه التكنولوجيا (أي تخصيب اليورانيوم). والغرض من ذلك أن التقييد مفاده منح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الوقت الكافي لفحص الأدلة التي يجمعها المفتشون الدوليون على برنامج إيران النووي، بقصد منع إيران من تخصيب يورانيوم يكفي لإنتاج رأس نووي واحد. لم تفلح العقوبات على إيران خلال السنوات الماضية في تغيير سلوكها النووي والاقليمي. لذلك، وفي حال نظر مجلس الأمن الآن في القضية عند قيام إيران بخرق تقني، فإن المجلس سينظر هذه المرة في استخدام القوة في غضون أيام، ولن يفرض عقوبات جديدة ثبت فشلها بالفعل.
تهتم تقديرات الاستخبارات الوطنية الأميركية، منذ العام 2007، بالتأثير في خيارات صناع القرار الإيرانيين ومعادلة العائد/التكلفة الخاصة بهم، باعتبار ذلك أفضل وسيلة لمنع ايران من التحول إلى قوة نووية عسكرية. في هذا الإطار، ما زال مجلس الأمن الرادع الأهم لإيران، سواء عبر تقرير عقوبات أو السماح باستخدام القوة، وهذا ما فهمه حسن روحاني منذ العام 2003 عندما كان مفاوضاً نووياً وقتذاك، إذ إن تحقيق إيران اختراقاً تقنياً يحولها إلى قوة نووية عسكرية لن يجلب فوائد لإيران؛ بل سيجعلها تدفع ثمناً كبيراً لقاء ذلك. وبالتالي، يرى أينهورن أن مجلس الأمن يجب أن يوافق مقدماً على كيفية التصرف إذا ما حاولت إيران تحقيق ذلك الاختراق التقني، أو خرقت بنود الاتفاقية الجاري التفاوض حولها الآن في فيينا. وطبقاً لأينهورن، يمكن للكونغرس الأميركي أن يمرر موافقة مسبقة على استخدام القوة العسكرية ضد إيران في حال توافر دليل يفيد بأنها قطعت خطوات تخالف مضمون الاتفاقية وسعت لإنتاج أسلحة نووية. المسكوت عنه في الورقة هو غرائبية الطرح بعض الشيء من الناحية القانونية، لأنه يطلب من مجلس الأمن قرارات مسبقة مبنية على افتراضات لا معطيات.
إيران في اليوم التالي للصفقة
نظمت مؤسسة «راند» الأميركية، القريبة من دوائر الدفاع والاستخبارات، ندوة كبرى قبل أيام، بمشاركة نخبة متميزة من الخبراء الأميركيين، ناقشت فيها على مدار عدة جلسات التأثيرات المحتملة للصفقة النووية الممكنة بين إيران والدول الست الكبرى. في الجلسة الأولى شدد كولين كاهل، الباحث الكبير في «مركز الدراسات الأمنية الأميركية الجديدة»، على ضرورة تمسك أميركا بعدم امتلاك إيران السلاح النووي، مع التأكيد أن الخيار الديبلوماسي يظل أفضل من سواه من خيارات. باربارا سالفين، الباحثة الكبيرة في «مجلس الأطلنطي»، تعتقد أن إيران تفضل اتفاقاً مع الغرب، لكنها مستعدة على الأغلب للنزوع نحو «الخطة باء» إذا انهارت المفاوضات النووية وبقيت العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، أي التعايش مع العقوبات ومع سياسات مجابهة واشنطن إقليمياً.
تناولت الجلسة الثانية للندوة الكيفية التي ستبدو عليها بيئة السياسة الإيرانية بعد الصفقة النووية مع الغرب، وكيف ينتظر أن تتطور سياسات إيران الإقليمية ومواقفها حيال الولايات المتحدة الأميركية. يرى علي رضا نادر، المحلل لدى مؤسسة «راند»، أن مرشد الجمهورية الإيرانية السيد علي خامنئي يريد مستوى جديدا من المرونة، لكنه حذر من التورط مع أميركا، سواء بصفقة نووية أو من دونها. ولأن المنافسة ما زالت قائمة بين إيران وأميركا، فلن تختفي العداوة في وقت قريب، لذلك يعتقد نادر أن السيد خامنئي لا يريد تغييرات جوهرية في سياسة إيران الخارجية. من ناحيتها، تعتقد روبين رايت، الباحثة في مركز «وودرو ويلسون»، أنه من السذاجة بمكان الاعتقاد أن هدف الإيرانيين هو علاقات جيدة مع أميركا، فأفضل ما يمكن توقعه هو علاقات باردة أميركية – إيرانية. وتوافق سوزان مالوني، كبيرة الباحثين لدى معهد «بروكنغز»، على ذلك: لا يمكن توقع تغيرات جوهرية في سياسة إيران الخارجية.
في الجلسة الثالثة لفت جيفري مارتيني، محلل سياسات الشرق الأوسط في مؤسسة راند، الانتباه إلى أن حصر الاتفاق في جانبه النووي سيعني تجاهل قضايا ملحة أخرى، على رأسها النفوذ الإقليمي الإيراني. في المقابل أعرب جون ألترمان، مدير برنامج الشرق الأوسط في «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» الشهير، عن اعتقاده أن دول الخليج العربية تخشى من تداعيات الاتفاق، وأن تتجاوز العلاقات الأميركية – الإيرانية مثيلاتها الأميركية – الخليجية.
ويعتقد بول بيلار، من جامعة «جورج تاون»، أن واشنطن يجب أن تقدم ضمانات أمنية لإسرائيل وكذلك لدول الخليج العربية، إذا أقدمت واشنطن على رفع العقوبات عن إيران. وكانت الندوة قد شهدت كلمة للجنرال ديفيد بترايوس، المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «سي أي إيه»، وستيفان هادلي، مستشار الأمن القومي للرئيس السابق جورج دبليو بوش، وأدارها المعلق السياسي في صحيفة «واشنطن بوست»، ديفيد إغناتيوس، حيث تناولت الكيفية التي ستؤثر بها الصفقة النووية على البيئة الاستراتيجية الأوسع، وعلى مصالح أميركا الدولية والإقليمية.
«دبابات التفكير» تعمل
لا تتعلق إشكالية الملف النووي الإيراني بالتفاصيل التقنية أو القانونية، بل بتأثيرات أي اتفاق محتمل على موازين القوى في الشرق الأوسط. يبدو أن مراكز الأبحاث الأميركية تجاوزت مرحلة تحبيذ التفاوض مع إيران أو النهي عنه. حتى مرحلة فشل المفاوضات تذهب أبعد من ذلك، بتصور ملامح وقسمات الصفقة الممكنة مع إيران، وصولاً إلى تصور اليوم التالي بعد إبرامها. وعلى الرغم من أن جوانب كثيرة من سياسات الدول، الصغرى والكبرى منها على حد سواء، تدار في الظلام ومن وراء الكواليس، فإن منتجات مراكز الأبحاث الأميركية المعلن عنها، تشكل أرضية غنية لمن يريد الإطلال على ما يدور في حلقات صنع القرار الأميركي حيال قضية ما. ولأن لكل مركز تفكير أميركي ارتباطاته السياسية والتمويلية، فلكل انحيازاته وتصوراته. وبالتالي، سيكشف وضع مجموعة المراكز وتفاعلها معاً حيال قضية الملف النووي الإيراني، ببعض الجهد، مواقف مجموعات الضغط الأميركية المختلفة حيال إيران وانحيازاتها للطريقة الأمثل للتعامل معها. إنها بالفعل «دبابات التفكير» (الترجمة الحرفية لمركز دراسات Think Tank)، تمهد الطريق الآن للتفاصيل النهائية قبل الصفقة المحتملة مع إيران بشروطها ومحاذيرها!