انتخابات الرئاسة في لبنان عام 1970: التحضير للحرب (أسعد أبو خليل)
أسعد أبو خليل
هناك من لا يزال يشيد بحريّة انتخابات الرئاسة في 1970. جعلوا منها مضرب مثل. نشرة أخبار «الجديد» بثّت تقريراً قبل أسابيع خلصت فيه إلى أن انتخابات الرئاسة في ذلك العام هي الوحيدة التي لم تكن من صنع خارجي. هلّل لتلك الانتخابات غسّان تويني وأسماها ديمقراطيّة «الصوت الواحد»، لأن سليمان فرنجيّة الجدّ فاز بصوت واحد. باتت تلك الانتخابات نموذجاً في المتخيل الشعبي عن النزاهة والديمقراطيّة، ولا من يسأل من اقترع وكيف؟ هي حقاً كانت انتخابات مفصليّة في التاريخ اللبناني المعاصر. هي فصلت في البدء بالتحضير للحرب الأهليّة في لبنان. لكن في كل ما كُتب ويُكتب عن تلك الانتخابات، قلّة تذكر أنها كانت أساساً انتخابات عالمية. خيضت الحرب الباردة بين الجبّاريْن في ساحة النجمة في صيف 1970. لبنان ساحة لصراع الحرب الباردة، يا لفخرنا وزهونا.
الانتخابات تلك كانت علامة فارقة. كان العهد الشهابي قد بدأ يحتضر. شارل حلو فشل في إرضاء فؤاد شهاب الذي قطع معه، وفشل أيضاً في إرضاء «المكتب الثاني» الذي كان السلطة الحقيقيّة في البلاد. في بداية عهد حلو، حدثت سلسلة تفجيرات متنوّعة في البلاد من باب التذكير من قبل «المكتب الثاني» لحلو بحاجته للجهاز الحاكم الذي فرض قهراً على البلاد وأقام نظاماً موازياً للنظام السياسي المُعلن. لكن المعركة الوطيس عام 1970 كانت داخليّة فقط في جانب واحد منها.
لم يكن عام 1970 عاماً عادياً. احداث جسام (وهل هناك من أحداث غير جسام في منطقتنا الخاضعة لإرهاب واحتلال العدوّ الإسرائيلي ومؤامراته) غطّت على المشرق العربي. الملك الأردني أعدّ العدّة لتنفيذ مؤامرة خبيثة (بالإيعاز) للقضاء على المقاومة الفلسطينيّة في الأردن (وكانت حركة «فتح» تقوم – كما فعلت في لبنان – بممارسات سيّئة ما يقدّم الذرائع لأعداء المقاومة). وكان النظام الناصري في لحظة ضعف لم تتوقّف منذ عام 1967. انكفأ النظام الناصري عن العالم العربي بعد 1967 وتوقّف عبد الناصر عن تقسيم العالم العربي في خطابه إلى معسكريْن، كما فعل في الخمسينيات والستينيات حتى حزيران 1967. كان مكسوراً بعدها لا يقوى على استعداء من وعده بتمويل إعادة بناء القوّات المسلّحة المصريّة. أما النظام السوري فكان في مرحلة الصراع العنيف بين جناحيْن (لم يبرع في الانقسام والفرقة أكبر من حزب البعث الوحدوي).
لكن الساحة اللبنانيّة كانت تُحضّر لمؤامرة خارجيّة خطيرة. الذي أمر الملك الأردني بالقضاء بالمجازر على المقاومة الفلسطينيّة في الأردن، قرّر أن يقلّد الفعلة في لبنان. لكن «المكتب الثاني» لم يكن موثوقاً به. كان مخترقاً كما أن علاقاته (عبر قادة له) بالنظام السوري والمصري الناصري أثارت الريبة في نفوس الحكومة الأميركيّة. كانت تثق بقيادات في الجيش اللبناني خصوصاً في عهد فرنجيّة لكن التنسيق بين الاستخبارات المصريّة واللبنانيّة أزعج الأميركيّين. لم يكن «المكتب الثاني» متراصّاً. تدرك ذلك عندما ترصد مسار قادته بعد حلّه في عهد فرنجيّة. تفرّقوا في بلدان مختلفة.
كان اليمين اللبناني يلعب لعبة ذكيّة في لبنان في العهد الشهابي. بعد النجاح الكبير لـ«الحلف الثلاثي» الرجعي الطائفي في انتخابات 1968 (والغريب فيها أن هناك في «المكتب الثاني» من عمل على عونه ضد القوائم الشهابيّة وباعتراف بشير الجميّل فيما بعد في حديثه عن تسهيل مرور السيّارات وبعلامات فارقة على زجاجها). لم تصدر وثائق بعد عن تلك الفترة في أرشيف الدول الغربيّة، لكن حرارة الحرب الباردة تحتّم أن تكون تلك الانتخابات قد خضعت لتدخّل أميركي صفيق ومباشر. لم تكن الولايات المتحدّة تترك لشعب من شعوب الأرض حريّة الانتخاب من دون التدخّل المباشر بأموالها ومؤامراتها للتخريب على النتائج لدعم اليمين ضد اليسار (وكانت الإدارات الجمهوريّة والديقراطيّة – كما هي الآن – لا تختلف في سياساتها الخارجيّة عن بعضها البعض). كانت الحكومة الأميركيّة تطلب من الحكومة السعوديّة ان تموّل حملات الحزب الديمقراطي المسيحي في إيطاليا (وهنا المفارقة في دعم الحكومة الوهّابيّة للحزب المسيحي) من أجل تفويت الفرصة على فوز الحزب الشيوعي الإيطالي الصاعد آنذاك. كان هنري كيسنجر مهووساً بخطر الفوز الشيوعي في فرنسا وإيطاليا (ليس مسبتعداً ان تكون الحكومة الأميركيّة قد دعمت سرّاً الحزب الاشتراكي الفرنسي – رفيق الحزب الجنبلاطي الاشتراكي في لبنان – لقطع الطريق على فوز الحزب الشيوعي الفرنسي والسياسات الخارجيّة للحزب الاشتراكي كانت – ولا تزال – هي سياسات حلف شمال الأطلسي).
لم يكن صعود الحلف الثلاثي أمراً عفويّاً في لبنان الستينيات. احتاجت الولايات المتحدة وحليفها الإسرائيلي إلى جبهة (وأميركا مثل الاتحاد السوفياتي كانت تعمد إلى إقامة الجبهات من حلفائها حول العالم) متراصّة في لبنان لمواجهة التحالف الوطني اليساري الذي كان يقوده كمال جنبلاط بالتحالف مع منظمة التحرير الصاعدة. اليمين اللبناني المتمثّل بحزب الكتائب وحزب الوطنيّين الأحرار والكتلة الوطنيّة، واجه كل خصومه في حملة انتخابيّة ذكيّة شاركت فيها بقوّة جريدة «النهار». وكانت العناوين آنذاك لا تختلف عن عناوين تحالف 14 آذار (المرعي هو الآخر – يا للصدفة – من قبل الولايات المتحدة الحنونة): حريّة وسيادة وعنفوان لبناني عريق. النظام الشهابي كان اكبر عون لحزب الكتائب بسبب كره فؤاد شهاب التقليدي لريمون إدة، أي ان الشهابيّة استحقّت أن تُضرب من قبل ربيبتها هي. ريمون إدة كان يكره الشيوعيّة مثل كرهه للشهابيّة (طبعاً، لم يستمرّ تحالف إدّة مع شمعون والجميّل في سنوات الحرب عندما حمّل التنافس بين زعماء الموارنة مسؤوليّة الحروب اللبنانيّة).
وجريدة «النهار» قادت الحملة الانتخابيّة للحلف الثلاثي اليميني الرجعي بصفاقة وجهاراً مثلما تعهد تلك الجريدة التي لم تتستّر يومهاً على هويّة دعمها الخارجي. ليس هناك دليل على ان النظام السعودي والكويتي ساهما في تمويل الحملة الانتخابيّة للحلف الثلاثي، خصوصاً أن السفير السعودي في لبنان (غير المُقيم) والسنيورة وريفي يؤكدون أن المملكة هي على مسافة واحدة من كل الأطراف في لبنان – باستثناء العدوّ الإسرائيلي الذي باتت تقيم معه أوثق وأقرب الصلات (ألم يثنْ يهود أولمرت هذا الأسبوع على أداء النظام السعودي في حرب تمّوز؟)
والنظام الشهابي لم يكن نظاما تقدميّاً في المقابل. على العكس. كان نظاماً رجعيّاً لا يختلف البتّة عن الحلف الثلاثي إلا في بعض الشعارات وإلا في مسألة توزيع الحصص في لبنان. النظام الشهابي كان يحرص على توسيع القاعدة الشعبيّة والزعاميّة للحكم الطائفي على عكس أسلوب الحلف الثلاثي. لكن النظام الشهابي عانى من أزمات عويصة. المقاومة الفلسطينيّة كانت في حالة صعود ولم يعد بمستطاع الجهاز القمعي لـ«المكتب الثاني» ان «يضبط» الوضع في المخيّمات كما في الماضي. كما أن مؤامرة «بنك إنترا» هزّت من بنيان النظام اللبناني (السياسي والاقتصادي على حد سواء) وشارك في تلك المؤامرة اقطاب في اليمين اللبناني (مثل صائب سلام وبيار إدة بصورة خاصّة). (مؤامرة بنك «إنترا» لم تُكشف فصولها بعد ولقد تواصلت مع ابن وحفيد يوسف بيدس لكنني لاحظت أن هم الورثة هو مالي – في ملاحقات قضائيّة – أكثر مما هو سعي نحو الحقيقة). وقائد الجيش اللبناني كان ذا طموح رئاسي، ما قرّبه من النظام المصري وسهّل قبوله لـ«اتفاق القاهرة» الذي أزعج أميركا والعدوّ الإسرائيلي.
لكن سليمان فرنجيّة لم يكن في صف «الحلف الثلاثي» بل انضم إلى «تكتّل الوسط» الذي حاول ان يفكّ العزلة الطائفيّة للحلف عبر إقامة تكتّل رجعي يميني عابر للطوائف (اسميّاً)، فجمع فرنجيّة وكامل الأسعد وصائب سلام (ليس صدفة ان تجمع أول سنة لعهد سليمان فرنجيّة الرئيس الجديد بالأسعد (في رئاسة المجلس) وسلام (في رئاسة الحكومة). وفرنجيّة كان وريث أخيه، حميد، الذي اعتزل العمل السياسي بسبب المرض (وكان في الندوات الدبلوماسيّة العربيّة والدوليّة قريباً جداً من الأمير فيصل – قبل أن يصبح ملكاً، أي أن سمير فرنجيّة ورث «الصداقة مع النظام السعودي» عن أبيه). وسليمان فرنجيّة لم يكن فصيحاً أو بليغاً أو خطيباً. كُتب له في افتتاحيّة جريدة «النهار» على اثر اشتباكات بين الميليشيات اليمينيّة والجيش اللبناني، من جهة، وقوى المقاومة الفلسطينيّة من جهة أخرى، مقالة بعنوان «وطني دائماً على حق»، وهو شعار فاشي معروف في الدول الغربيّة. لاقى هذا الشعار ترحيباً من قبل جمهور الحلف الثلاثي الطائفي الذي كان يرى في المقاومة الفلسطينيّة تهديداً ديمغرافياً وسياسيّاً وعسكريّاً لنظام الهيمنة الطائفي السائد منذ الاستقلال.
لكن عمليّة الانتخابات الرئاسيّة كانت متعثّرة من قبل الشهابيّة. كان فؤاد شهاب صعب المراس وعنيد ولا يقبل بتغيير رأيه بسهولة. ومن شدة إعجابه بالرجل الأبيض، لم يكن يكنّ إعجاباً لأبناء وبنات جلدته. كلّهم عنده «أكلة جبنة» كما انه رأى جحوداً من قبل خلفه، شارل حلو الذي اشتهر بمهارته في الكذب والتلوّن والنفاق (سياسة، في المعيار اللبناني). نأى شهاب بنفسه وكان يمانع إعطاء مواعيد في منزله في صربا إلا فيما ندر، وإلى الذين لا ينفخون دخان سيجارهم في وجهه، كما كان يفعل صائب سلام فصمّم على إبعاده عن رئاسة الوزارة. تشتّت البنيان الشهابي وصار له أكثر من رأس. نجهل حتى الساعة عمليّة انتقاء إلياس سركيس (الذي له من الكاريزما وسحر الشخصيّة والقاعدة الشعبيّة ما لدى ميشال سليمان – الذي سيتسنّى لنا عمّا قريب رؤية تمثال برونزي نصفي أو كلّي له في عمشيت). لماذا إلياس سركيس دون غيره؟
فوجئ الفريق الشهابي بترشيح إلياس سركيس: الحياة السياسيّة اللبنانيّة النخبويّة لم تعهد ترقّي موظّف إلى صف الرؤساء. قالها صراحة الشهابي صبري حمادة: «كيف أزَرّر سترتي لمقابلة إلياس سركيس»، كان يكرّر القول؟ طبقة الزعماء (من الجانبيْن) تعاملت معه بفوقيّة. كان الفريق الشهابي يعوّل على ترشّح فؤاد شهاب، منقذه، لكنه فاجأ الجميع بإعلان عزوفه. تعامل شهاب دوماً بقرف مع الطبقة السياسيّة اللبنانيّة. كان الرجل يعتبر نفسه فرنسيّاً تائهاً في لبنان بالصدفة. أخذ الفريق الشهابي على حين غرّة وتداولوا في أمر ترشيح بديل. كان هناك أسماء طرحت من نوع جان عزيز (الذي كان يمكن للكتلة الجنبلاطيّة ان تؤيّده) وغيرها، لكن هناك من حسم الأمر بترشيح سركيس. هناك نظريّة ان «المكتب الثاني» أراد رئيساً ضعيفاً (وأثبت سركيس فيما بعد أنه أضعف الرؤساء، إلى ان ظهر ميشال سليمان على الساحة – ينتظر الشعب اللبناني تشييد نصبه التذكاري البرونزي في عمشيت على أحرّ من الجمر لإلقاء التحيّة الخالصة له) كي يسهل الحكم له. سركيس هو رئيس يستطيع «المكتب الثاني» أن يحكم من خلاله، أكثر من شارل حلو. لكن التعويل على إمكان فوز سركيس كان الخطأ القاتل لفريق «المكتب الثاني» الشهابي.
ما أزال أذكر تفاصيل عمليّة الترشيح والانتخاب مع أنني كنت في سن العاشرة. كنتُ أزور والدي في مكتبه في مجلس النوّاب وأسمع ما يُقال حولي من قبل الكبار. كان فريق «الوسط» يتمتّع بإمكانات ماليّة هائلة. أموال كثيرة أنفقت على شراء النوّاب (وكانت عمليّة رشوة النوّاب سهلة آنذاك لأن الانتخابات الرئاسيّة وانتخابات رئاسة المجلس النيابي تجري من خلال وضع «مفاتيح انتخابيّة» تُسلّم للنائب من أجل رصد طاعة النائب المُرتشي. كان مثلاً النائب المُرتشي يُعطى ورقة يُكتب عليها «الزعيم كامل الأسعد» وآخر يُعطى ورقة يُكتب عليها «الرئيس كامل الأسعد»، وهكذا دواليك. لكن المجلس النيابي ألغى فيما بعد – بعد الحرب الأهليّة – عمليّة وضع المفاتيح على ورقات الاقتراع لكن عمليّة رصد الأصوات من دون مفاتيح كانت ممكنة إذ ان الكتل النيابيّة كانت تضع أختاماً مُحدّدة ومرمّزة من أجل متابعة رصد اقتراع المُرتشين الكثر).
لم يتنبه الفريق الشهابي إلى التمويل الهائل للخصم الوسطي إلا في الأيّام الأخيرة قبل الانتخاب. حصل هذا الفريق على تمويل ما من مصدر ما، لكن الكتل كانت قد حسمت أمرها إلى حدّ كبير تحت التأثير السياسي والمالي. كمال جنبلاط كان (كما ابنه اليوم) «بيضة القبّان» ولم يعجبه شخص سركيس هو الآخر (ربما بسبب الاستعلاء الطبقي الدفين: كيف يجرؤ موظّف في الدولة ان يترشّح إلى رئاسة الجمهوريّة؟ هال هذا الأمر زعماء لبنان الطائفيّين الذين توارثوا ثرواتهم ومناصبهم). قال جنبلاط فيما بعد إنه ندم على قراره بتقسيم أصوات كتلته بين الفريقيْن، لكن هل التزمت كتلته بذلك القرار، أم أنها رجّحت كفّة سليمان فرنجيّة؟ علّل جنبلاط قراره فيما بعد بأنه استشفّ نفساً تقدميّاً في برنامج سليمان فرنجيّة عندما أخضعه لامتحانه الرئاسي الشهير، لكن ليس هناك في ماضي سليمان فرنجيّة ما ينبئ بتوجّهات تقدميّة أو يساريّة. هناك من قال إن الصوت المُرجّح خرج من كتلة كمال جنبلاط.
قبل يوميْن من عمليّة انتخاب فرنجيّة، زار رجل ما من «المكتب الثاني» والدي في مكتبه في المجلس النيابي وعرض عليه حقيبة كانت تحتوي على نصف مليون دولار آنذاك (وهذه كانت ثروة في حينه)، وحثّه على استخدام رصيده وصداقته مع النوّاب من أجل رشوة نائب واحد، لأن «المكتب الثاني» أدرك متأخّراً أن الانتخابات ستُرجّح بصوت واحد فقط. رفض والدي القيام بالمهمّة مع أن المندوب المذكور اقترح عليه أن يتقاسم المبلغ بالتساوي مع النائب المُرجّح.
تسارعت الأحداث في الساعات القليلة التي تلت عمليّة الانتخاب وتلاحقت الأنفاس. خبراء العدّ في الفريقيْن عوّلوا على صوت واحد. كانت هناك تأكيدات أخلف بها واحد فقط في الفريق الشهابي. لا نعلم ظروف تغيير الصوت. كان والدي على قناعة أن صديقه النائب محمّد دعّاس زعيتر هو الذي غيّر رأيه في الساعات الأخيرة لصالح سليمان فرنجيّة، لكن لا أملك دليلاً على ذلك، وأعتقد ان النائب الراحل زعيتر نفى ذلك فيما بعد (أو أكّده للفريق الآخر، لا أدري).
روت سونيا فرنجيّة (التي عبّرت أخيراً عن قناعتها أن أولاد «العائلات» الإقطاعيّة فقط تحق لهم الزعامة السياسيّة) في كتابها الجديد عن والدها يوم الانتخاب بتفاصيله. على عادتها، كانت سونيا صريحة جداً واعترفت أن ميليشيا سليمان فرنجيّة صاحبته إلى مبنى المجلس وأحاطت بالمبنى من مختلف الجهات خشية إعلان نتيجة غير مُستحبّة. لكن ميليشيا صبري حمادة (بالإضافة إلى شرطة المجلس وهي ميليشيا رئيس المجلس) حضرت هي أيضاً. لكن ما إن تمت قراءة أوراق الاقتراع حتى كاد صبري حمادة ان يقع مغشيّاً. لم يكن يريد أن يعلن فوز سليمان فرنجيّة. ناشده كثيرون في القاعة أن يُعلن النتيجة رسميّاً حتى «لا يخرب البلد» – لماذا هذا البلد يكون دائماً على أهبة الخراب؟ هل لأن أغنية «راجع راجع يتعمّر راجع لبنان» تتكفّل بإعادة إعماره «أجمل مما كان»، لعمري؟ لكن صبري حمادة أصرّ. هو علم أن فوز فرنجيّة يعني نهاية عهده في رئاسة المجلس التي ضمنها في العهد الشهابي (كما أنه علم أن عدوّه اللدود وصهره، كامل الأسعد، سيخلفه في المنصب بحكم تحالفه مع فرنجيّة). قرّر حمادة أن يستريح لبضع دقائق. ذهب إلى مكتبه وهاتف شخصاً واحداً فقط: فؤاد شهاب. اقترح عليه شهاب أن يقبل بالنتيجة، وإن على مضض، وان يعلن فوز فرنجيّة لتجنيب البلاد كارثة محققة. عاد حمادة إلى المنصّة مكسوراً وأعلن النتيجة بابتسامة مصطنعة (ورأيته بعد أسابيع فقط في منزله في بحمدون وهو يبكي وهو يراجع مضاعفات انتخابات فرنجيّة – بالأحرى استرقت النظر خلف جدار أثناء لقائه والدي وتناهى إلى سمعي بعض الحديث الذي ما أزال أذكره، وكان مهدي صادق حاضراً أيضاً).
ماتت الشهابيّة على الفور. كان الحكم للغرب في ذلك العهد. لم يسئ للعلاقة بين الرئيس الجديد والولايات المتحدة إلا قصة الكلاب البوليسيّة التي فتشّت حقائبه عام 1974، عندما زار نيويورك منتدباً من قبل الجامعة العربيّة. لم يغفر لأميركا فعلتها: العنفوان التقليدي الإقطاعي منعه. كان السفير الأميركي الآمر الناهي في ذلك العهد، لكن اندلاع الحرب الأهليّة قسّم الحكومة الأميركيّة بين معارض لميلشيات اليمين (في فريق المُستعربين) وبين مؤيّد بقوّة (فريق خرّيجي «خليج الخنازير» في الاستخبارات الأميركيّة – كان فيليكس رودريغز في لبنان عشيّة الحرب).
أرسى فرنجيّة دعائم حكم جديد. قطع مع الفريق العسكري ــ الاستخباراتي الذي كان ينسّق مع النظام الناصري. أتى بفريق جديد له. جول بستاني أصبح رئيس «الشعبة الثانية» وبدأ التحضير للحرب بأمرة أميركيّة. ليس هناك من إثباتات عن علاقة بين قائد الجيش القريب من فرنجيّة، إسكندر غانم، وبين العدوّ الإسرائيلي كما أشاعت تنظيمات فلسطينيّة لكن غانم عارض بقوّة إجراء أي تحقيق جدّي في ملابسات عمليّة فردان عام 1973. وقد رعى بستاني هذا إنشاء ميلشيات يمينيّة تخضع له، مثل «التنظيم» (لبستاني هذا كتاب باسم «أقدار وتوقّعات» يعبّر فيه عن عدائه الشديد للمنظمات الفلسطينيّة واليساريّة اللبنانيّة كما أنه يُحدّد أهداف العدوّ الإسرائيلي بـ«تأمين سلامتها بتعديل إقليمي يضمن حدوداً آمنة ومعترفاً بها» (ص. 58). هذا كان نمط فكر الفريق الحاكم. وبستاني هذا اعتبر نفسه محلّلاً استراتيجيّاً رفيعاً توصّل إلى معلومة مهمّة أن الشرق الأوسط يحتوي على «أضخم مخزون عالمي من النفط» (ص. 39) وهو يستشهد بالمفكّر «ميكيافل» – حسب بستاني، وقد يكون الرجل المذكور من سن الفيل وهو غير ميكيافيللي – ويعزو له خطأ شعار فرّق تسد الذي يُعزى إلى فيليب المقدوني. لم يطل الأمر للبدأ بتنفيذ المؤامرة. كانت عمليّة أيّار 1973 تحضيراً للحرب الأهليّة. ظن الراعي الأميركي أن القضاء على المقاومة الفلسطينيّة وعلى اليسار اللبناني ستكون مسألة أشهر. استعمل سلاح الجوّ اللبناني الذي لم يقصف هدفاً إسرائيليّاً مرّة واحدة لقمع المخيّمات. أبطال المؤامرة أفشلوا المخطط بشجاعتهم وصمودهم. يعترف كريم بقرادوني ان فرنجيّة بعد ان أقرّ بعجز الجيش عن مواجهة المقاومة فتح كل خزائن الحرب أمام الميليشيات اليمينيّة الطائفيّة، بما فيها ميليشيا ابن الزعيم الرئيس نفسه. بدأت الحرب فيما كان الجانب الآخر – بقيادة جورج حاوي وكمال جنبلاط ومحسن إبراهيم – يلهج بحمد النضال البرلماني للتغيير. أمدّ عدم التحضير إلى إطالة أمد الحرب لسنوات، وفوّت فرصة للقضاء المبكّر على اليمين.
انتخابات الصوت الواحد؟ لا، هي انتخابات القوّة العالميّة الواحدة.
صحيفة الأخبار اللبنانية