رحلات النساء في التراث العربي (عمرو عبدالعزيز منير)
عمرو عبدالعزيز منير
هل كانت الرحلة عند العرب عبر التاريخ، وبصفة رئيسة، وقفاً على الرجال دون النساء؟ الحق إنه يمكن القول: إن رحلات الرجل فاقت بكثير رحلات المرأة في الكم والكيف والمدى الزمني. ومع ذلك، فهناك حالات استثنائية تساوت فيها المرأة مع الرجل في مشقة الرحلة وزمنها. كما يمكن القول إن دوافع الرحلة عند المرأة متعددة شأنها في ذلك شأن الرجل، وإن تباينت بينهما الاهتمامات والمشاهدات وأسلوب عرضها لمادة الرحلة.
وفي تفسير هذه الحقيقة التاريخية والظاهرة الاجتماعية في ما يختص برحلات النساء وترتيب أسفارهن، يرى البعض أن التكوين البيولوجي متمثلاً في وفرة المني وطبيعته التحركية عند الذكور في مقابل شح البُييْضَة وطبيعتها الساكنة عند الإناث أكسبا الرجال نشاطاً يميل عادة إلى حركة التنقل أكثر مما لدى النساء.
وقد يكون من المناسب في إطار عرضنا الموجز لبعض المسائل المتعلقة برحلات النساء وترتيب أسفارهن، أن نشير إلى أن النسوة المسلمات في عصر ابن بطوطة كانت لبعضهن حرية اتخاذ القرار للقيام بالرحلة أو العزوف عنها. وقد ارتبطت هذه الحرية ـ بطبيعة الحال ـ بمكانة المرأة الاجتماعية، وإمكاناتها المادية لتغطية تكاليف السفر. وعلى كل حال، فإن قيام المرأة المسلمة الحرة ـ بخاصة المتزوجة ـ برحلة خارج البلد كان يستلزم موافقة الزوج. ولم يكن يُسمح للمرأة المسلمة بسفر يستغرق أكثر من ثلاثة أيام من دون أن يرافقها زوجها أو أن يلازمها ذكر من أهلها المحرم عليهم نكاحها. وكان منطق هذا الإجراء هو حماية المرأة إبان سفرها مما قد تتعرض له من مخاطر الطريق أو أهواء البشر.
وفي هذا السياق نجد أن العديد من النساء قد قُمن برحلات مع أزواجهن سواء كانت الرحلة للتجارة أم لأداء فريضة الحج وزيارة الأماكن المقدسة. وكان الناس رجالاً ونساء يتوافدون إلى المدينة المنورة بعد أداء المناسك أو خلالها، يجتمعون إلى صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يسألون ويستفتون ويسمعون الحديث، وكانت نساء الأمصار يتحينّ الفرص للدخول على أمهات المؤمنين خصوصاً، إذ كانت حجراتهن (رضي الله عنهن) جميعاً لا تخلو من زائرات يردن السماع والفتوى، وكانت كبريات الصحابيات أيضاً مرجعاً مهماً للحديث لهؤلاء النساء الوافدات، فإذا علمنا أن أمهات المؤمنين لزمن الحصر في بيوتهن، أي في المدينة امتثالاً لقوله (صلى الله عليه وسلم): (هذه ثم ظهور الحصر)، بعد أن حج بهن، إلا ما كان من عائشة في خروجها إلى البصرة، وأم حبيبة في زيارتها لأخيها في دمشق، وقد روى عن أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) خصوصاً في مواسم الحج جيل من النساء من مختلف الأمصار، ورواياتهن تشير إلى أن السماع أو اللقيا كانت أثناء مناسك الحج، أو أنهن دخلن عليها، وسألنها في مختلف القضايا… ولا غرابة أن تكون معظم رواياتهن عن عائشة، حيث إن من رغب في حيازة علم ركز على أشهر حامل له، وهذا ما توفر فيها، وفي تلميذاتها من بعدها: عمرة بنت عبدالرحمن، وعائشة بنت طلحة، وغيرهما. وكان للمرأة حق رفض مصاحبة الزوج في رحلاته، الأمر الذي كان يؤدي في حالات كثيرة إلى الطلاق كما فعل ابن بطوطة مثلاً مع زوجته الهندية عندما قرر الرحيل عن الهند بعد إقامة بها دامت ثماني سنوات. وكان الطلاق حينذاك أمراً ميسراً، وربما كان أيضاً حلاً مُرضياً لكل من يختار البقاء ولمن يتطلع للرحيل.
ويحيطنا ابن بطوطة علماً أن هناك نساء كثيرات كن قد قُمن برحلات مع أزواجهن، وكانت الرحلة بالنسبة إليهن عملاً اقتضته الضرورة أكثر من الرغبة الشخصية للزوجة. ومن بين رحلات المرأة التي اقتضتها الضرورة رحلة الزواج، إذ إن تقاليد التنظيم الاجتماعي للمجتمعات العربية والإسلامية في عصر ابن بطوطة (والتي ما زالت سائدة حتى عصرنا الحالي) كانت تقتضي انتقال الزوجة من مقر أسرتها إلى محل إقامة الزوج سواء كان قائماً في البلد ذاته أم خارجه. وكان الانتقال في بعض الحالات يقتضي السفر البعيد والزمن الطويل، لذا استلزم الأمر ترتيبات معينه تضمن السلامة والأمان من مخاطر الطريق.
وتطلب سفر المرأة، متزوجة كانت أو جارية، إعداداً معيناً وترتيباً محدداً بخاصة إذا كان الأمر يتعلق برحلة يقوم بها السلطان ويصطحب فيها النساء. وقدم ابن بطوطة وصفاً دقيقاً عن هذا الأمر، بذكره ترتيب سفر السلطان محمد أوزبك، سلطان الهند، وأحد الملوك السبعة الذين هم كبراء الدنيا وعظماؤها، على حد وصف ابن بطوطة له.
ويذكر ابن بطوطة أن السلطان كان إذا سافر في محلة على حدة، معه مماليكه وأرباب دولته، وتكون كل خاتون من خواتينه (زوجاته) على حدة في محلتها، فإذا أراد أن يكون عند واحدة منهن، بعث إليها يُعْلمها بذلك، فتتهيأ له.
وفي شرقنا العربي نجد أن رحلة الأميرة المصرية قطر الندى إلى قصر الخلافة في بغداد ليست ببعيد، إذ كانت تلك الأميرة هي ابنة خمارويه بن أحمد ابن طولون ـ والأخير هو مؤسس الدولة الطولونية في مصر (254 – 292هـ) وقد خطبها الخليفة العباسي المعتضد وعلى أثر عقد الخطبة، عقدت بين مصر والخلافة، معاهدة سلم وصداقة، اعترف الخليفة بمقتضاها بولاية خمارويه على مصر والأراضي الملحقة بها من الفرات شرقاً إلى برقة غرباً. وتأهبت الأميرة المصرية للخروج إلى بغداد، وهنا أيضاً يجب أن نرجع الذهن إلى قصص ألف ليلة وليلة لكي نتصور ما أحيطت به تلك الرحلة من مظاهر الفخامة والترف. فقد أراد خمارويه أن يجعل من تلك الرحلة الشاقة، خلال القفر الشاسع، نزهة هنية ممتعة، فأمر أن يبنى لها على رأس كل منزلة (محطة) تنزل بها، قصراً وثيراً. كما قامت السلطانة المصرية شجر الدر سنة 648هـ برحلة الحج براً، فأمرت بإصلاح الطريق وحفر الآبار وبناء البرك على طول درب الحاج المصري وقامت بتوزيع الهدايا على الأعراب وتعتبر أول من أعاد استخدام الطريق السينائي من السلاطين المصريين. ما يهمنا هنا هو حقيقة أن سفر المرأة وارتحالها كانت له ضوابط وآداب خاصة إذ كانت تنتمي إلى علية القوم مما كان الأمر يتطلب الحماية والرعاية، كما أنه غالباً ما كان ارتحال النساء من علية القوم يعود بالنفع على طريق الرحلة، كما رأينا في حالة السلطانة شجر الدر التي أصلحت طريق رحلة الحج وكذلك أسهمت السيدة زبيدة زوجة الخليفة هارون الرشيد اسهاماً عظيماً تجاه طريق الحج والأراضي المقدسة في كل من مكة والمدينة في رحلتها للحج حيث يذكر الحربي (وهو أحد الرحالة المسلمين الأوائل) إحدى عشرة محطة ومنزلاً على طريق الحج مزودة بوسائل حفظ المياه سواء كان ذلك على شكل آبار وأحواض وأشكالها، إضافة إلى القصور والحصون، وجميع هذه المرافق يعود الفضل في إنشائها إلى السيدة زبيدة. ويروي الفاكهي أن السيدة زبيدة قامت برحلة الحج سنة 211هـ (826م) فأنشأت على إحدى البرك التي أقامتها بالمعلاة بمكة غرفة سفلية وأخرى علوية يقيم فيها القائم على البركة والذي يتولى حراستها وصيانتها ويشير البغدادي في تاريخ بغداد أن السيدة زبيدة أنفقت في إحدى رحلاتها لمكة (أربعة وخمسين ألف ألف) خلال ستين يوماً فقط.
وفي العصر الحديث نطالع مذكرات أميرة عربية وهي السيدة سالمة بنت سعيد بن سلطان، حاكم عمان وزنجبار (1804-1856)، والتي أحبت وتزوجت شاباً ألمانياً رحلت معه إلى ألمانيا. وعندما حنت إلى وطنها عادت بعد عشرين عاماً وسجلت مذكراتها التي تقارن فيها بين تقاليد وعادات بلدها وما عاينته وعاشته في الغُربة.
وفي عام 1986م قدمت لنا الكاتبة المصرية نعمات أحمد فؤاد «رحلة الشرق والغرب»، وكانت رحلتها خير تمهيد لما فعلته ليلى العثمان، الروائية والقاصة الكويتية، حين زارت اليمن ثلاث مرات في عام واحد، هو عام 2004، ونشرت ما كتبته عن هذه الرحلات في كتاب عنوانه «أيام في اليمن»، صدر في العام نفسه. وعلى رغم فقر الصورة النمطية، التي أطرت المرأة العربية في تراث الرحلة، وسذاجتها قياساً إلى ثراء الواقع وحيويته، فإن لهذه الصورة كما يظهر في تاريخ الأفكار والمجتمعات تأثير كبير على اللاوعي الجمعي، ومفعول على الوجدان العام، أي أن لها امتداداتها وسلطتها إلى زمن ما بعد الرحلة.