علي نصّار: بيروت كلها في «حانة آرتين»
«أهرب إلى عالمين افتراضيين بالكامل: يوتوبيا الايروتيك ويوتوبيا الدين». بهذه العبارة يأخذنا علي نصار إلى كل ما يريد قوله لنا في روايته «سيرة مسلم في حانة آرتين» (دار النهضة العربية). يضعنا في قلب رحلته المجهولة بحثاً عن العلاقة بين الإيروتيك والدين: «الإيروتيك هو الوجه الآخر للتابو الديني، فالاثنان يبعدان الجسد عن ماهيته وواقعيته ولو باتجاهين متعارضين».
تبدأ الرواية من عودة الشاب الذي يتابع دراسة الماجستير في ألمانيا الى بيروت. يعود إليها لمعرفة أسباب طلاق والديه اللذين بديا منسجمين طوال حياته معهما، وكذلك لإنجاز رسالة الماجستير تحت عنوان «القواسم المشتركة بين الإيمان والإدمان». يصل الى بيروت ليقع في بيت والده على سيرة ذاتية عن «مسلم» الذي كان يسكن مع ذويه في «النبعة» الواقعة في بيروت الشرقية قبل الحرب الأهلية عام 1975. وبفعل الحرب وكونهم مسلمين، ينزحون الى بيروت الغربية حيث الأغلبية المسلمة، وحيث يتمكن صديقه الميليشياوي من تأمين شقة فخمة له ولأهله. شقة هجرها أصحابها المسيحيون نحو بيروت الشرقية للأسباب نفسها. يتعرّف هناك إلى صاحب المليارات القاطن في المبنى نفسه ويتزوج ابنته.
ينقلنا علي نصار بين شخصيتين، يغور في تكاوينهما الداخلية.
نتحرك بين الراوي «الشاب العائد» و«مسلم». إنهما روايتان في رواية واحدة. الراوي «الشاب العائد» يكتشف أخيراً أن والده هو نفسه «مسلم» الذي كتب سيرته الذاتية باسم مستعار ليدلّ بهذا الاسم على نشأته الدينية التي لم يخرج منها في قرارة نفسه. خرج متنقلاً بين الأحزاب الرأسمالية لجني أكبر قدر من الأموال والعلاقات، لكنه يعود إليها محاولاً إقناع ابنه «الشاب العائد» بالتخلي عن الماركسية والعودة إلى «الدين الحنيف».
يريد لنا صاحب رواية «كل ما يعرفه بائع الكعك» أن نعيش معه الصراعات النفسية التي عاشها «مسلم». يتذكر «مسلم» نصائحه لأترابه بأنّ «ممارسة العادة السرية ستسبب لكم نقصاً في الرجولة. يجب أن تعلموا يا أصدقائي أن المكان الطبيعي لهذه الآلات هي فرجات زوجاتكم. هناك ستستمتعون بالحلال وتكسبون الدنيا والآخرة». يعود ويقول لنا: «كانت نصائحي مثمرة. معظمهم تزوج وكوّن أسرة في سن مبكرة، إنما المفارقة أن الجميع توقفوا وتحرروا إلا أنا». «مسلم» النازح الواقع بين عالمين يسميهما «افتراضيين بالكامل» الدين والبورنو، يحدّث نفسه: «فقدت منزليّ أو ملجئيّ الفعليين: مصلى الشيخ الحلي وصالات البورنو».
هو نفسه «مسلم» يطلّ بنصائحه بعد 25 عاماً على ولده «الشاب العائد»: «اسمع.. كلّ ذي عقل هو مدمن. أما من يتخلص من إدمانه، فسينتقل لا محالة إلى إدمان آخر. بمجرد أن يبصر الوليد النور، يدمن ثدي أمه ولا يتخلى عنه إلا بعد معاناة، ليبدأ بعدها رحلة إدمانات لا تنتهي من الأشخاص إلى الأماكن إلى الأفكار إلى شتى أنواع المتع والأوهام. والمفارقة أن الإنسان يسعى إليه تماماً كما يفعل مع الإيمان».
يكتب علي نصار عن اللاوعي المتشعب المبهم. «مسلم» الشاب يبحث عن الصور الجنسية ويقرأ في كتابي «نهج البلاغة» و«مفاتيح الجنان» حريصاً على إبعادهما عن «النجاسة». هل يكتب علي نصار جزءاً من سيرته الذاتية؟ هل يريدنا أن نفهم العذابات التي تحملها هذه التناقضات، وقد عاشها شاب يحاول أن يخرج من سجن الدين وأفلام البورنو الى الواقع الحقيقي الطبيعي للإنسان؟ «انتبهت الى أن الحياة أرحب من تلك التي عشتها.. إلى شكل آخر للحياة. شكل لا علاقة له بافتراضية البورنو ولا بأسطورية الدين. أمل مرئي أستطيع لمسه وشمّه ورؤيته. البورنو والأفكار الإيمانية التي نشأت عليها عوّداني على تأجيل كل ما هو ممتع وإرساله الى وعد ما مبهم الى الفنتازيا الجنسية المجردة الى المنتظر الغيبي في الدين. إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم أن لهم الجنة».
هذه الرواية تكتب دواخلنا، لا بل هي تبث من أعماقنا «هذا ما فاقم حاجتي الى حضن ينتزعني من صقيع نفسي». «الله يتكاثر ويتضاعف فينا لنزداد ألماً.. نهرع للالتحام.. نخترع الصديق الحبيب». هكذا يصوّر نصّار ضياع وتشتت كل من «مسلم» و«الراوي الشاب».
نشعر أن هذه الرواية هي تسجيل واقعي بدون افتعال. كأنها شيء من قصة حياة علي نصار نفسه. يلتقط نصار ما هو دفين. الشاب العائد في طريقه للوقوف عند أسباب طلاق والديه يقابل صديقة والدته زينب كل ليلة في حانة أرتين مع أصدقاء والده القدامى. يشعر بانجذاب جنسي نحوها وهي مربيته «كان شعوراً جارفاً مترافقاً مع إحساس بالذنب ومع شبق للغثيان». إننا ندخل معه الى الخفيّ منه، الى التناقضات المؤلمة… ضياع يشعر به شاب يبحث عن الأمان، فيحتقر نفسه مع المرأة التي يريد أن يكون معها.
أراد علي نصار لروايته أن تحكي تحولات بيروت بعد الحرب، بيروت التي لم تعد تشبه نفسها. «ماذا جرى لشارع الحمرا؟ ما هذه البشاعة التي تحتله! ما لهذه المقاهي وروادها يتداعون ويتبدلّون بهذا الشكل البائس؟ انظر ماذا فعل مال الإعمار الخليجي، لقد اشتروا العاصمة، والأنكى أنهم اشتروها بجزء يسير من الذي نهبوه، أي مجاناً، هل سمعت عن شعب يبيع عاصمته، لا بل يرزح تحت الديون كرمى لعيون ناهبيه». مفارقات بارزة بين الطوائف، لكنها تلتقي على شيء واحد هو المال: «الشيعة بالنسبة لوالدك منجم ذهب». «اغتصب الحريري وأسياده السعوديون أهم مناطق لبنان وأثقلونا بالدين.
أما إنجازاتهم فتنحصر في الأوتوسترادات»، «الركود الحاصل هو ركود مفتعل من قبل أحبابك الوهابيين في الخليج»… حوارات بين الأب «مسلم» الذي بدّل مواقفه وتوغل في جيوب أصحاب الأموال من مختلف الطوائف، وبين رفاقه القدامى أمام «الراوي الشاب» ليضيف إليه إحباطاً فوق إحباطه.
يحيلنا علي نصار في روايته إلى فضاء آخر. فضاء يريد اللعب فيه، يريد قوله كما هو، حين يكتشف الشاب أن سبب طلاق والديه هو أن والدته سحاقية مع مربيته زينب: «لقد خدعتِ والدي طيلة ربع قرن تستغلينه تخدعينه تستغفلينه وأنت تعلمين أنك لن تستطيعي التوقف عن الشذوذ والانحراف»، فتجيبه أمه «لا لست منحرفة، المنحرف هو هذا المجتمع الذي لا يستطيع تقبّل المختلف، هل شاهدتني يوماً أؤذي أحداً؟ هل أغويت النساء لكي أستغلهن كما يفعل صديقك الهرش؟ هل نصبت على أحد أو تذللت وتمسحت لأحد كما يفعل والدك؟».
يجمع علي نصار في روايته «سيرة مسلم في حانة آرتين» تناقضات وتعقيدات عوالم عديدة يظهر الخفيّ منها، يظهر ما يرزح تحت النفوس من عذابات في شخصيات مختلفة هي بيروت كلها في حانة آرتين.
صحيفة الأخبار اللبنانية