المصالحة الفلسطينية وثورات الربيع العربي (مصطفى الفقي)
مصطفى الفقي
ستبقى القضية الفلسطينية هي القضية العربية الإسلامية الأولى، لا تطغى عليها أحداثٌ عابرة أو مواقف طارئة، إذ يجب أن نتذكر أن «إسرائيل» مسؤولة تاريخياً عن كثير من مشاكل المنطقة وأزماتها، بل إنني أظن أننا لو وجدنا مأساة عربية جديدة، أو كارثة قومية طارئة فمن الضروري أن نقول (فتش عن إسرائيل) وحتى الانقسام الفلسطيني الذي أضر بالقضية ضرراً بالغاً في السنوات الأخيرة هو نتاج لتدخلات إسرائيلية وألاعيب صهيونية لن تتوقف أبداً، بل إن التشجيع الإسرائيلي لحركة المقاومة الإسلامية عند ميلادها في الانتفاضة الأولى لم يكن حباً فيها ولكن رغبة في إيجاد قيادةٍ بديلة يؤدي ظهورها إلى انقسام الفلسطينيين وتشتيت وحدتهم، لذلك كانت «إسرائيل» هي الرابح الأول من ذلك الانقسام، وهي التي استفادت منه وحاربت كل محاولات المصالحة من خلال تسريبات واختراقاتٍ لا تخفى على أحد، وحين أقدم الرئيس «محمود عباس» (أبو مازن) على الدخول في المراحل النهائية للمصالحة مع حركة «حماس» عطَّل الجانب الإسرائيلي المفاوضات السلمية، على رغم أن «محمود عباس» أعلن أن الحكومة الفلسطينية المشتركة المقبلة تتبنى في شكل واضح الاعتراف «بإسرائيل» والتعامل المباشر مع الدولة «العبرية»، ولكن ذلك لا يكفي لإنهاء النهم الإسرائيلي بأخذ كل شيء وعدم ترك أي شيء، ويهمنا في هذا المقام أن نعرض لمؤثرات الربيع العربي على القضية الفلسطينية وتوابعها، خصوصاً موضوع المصالحة، وذلك من خلال النقاط الثلاث الآتية:
أولاً: في غمرة أحداث المنطقة العربية ومشكلاتها المتعددة جرى تطور كبير يمس القضية العربية الأولى وهي «القضية الفلسطينية»، وذلك بالتقارب الذي حدث بين الفصيلين الكبيرين وهما حركتا «فتح» و «حماس» أخيراً، والذي يفتح الأبواب أمام وحدة الصف الفلسطيني، وإنهاء الانقسام الذي استمر لأكثر من سبع سنوات وترك آثاره السلبية على وحدة ذلك الشعب المناضل، كما أدى إلى تأثير سلبي في الشخصية الفلسطينية دولياً، بل وفي المفاوض الفلسطيني أيضاً في كل الاتجاهات، وسمح «لإسرائيل» بمزيد من العربدة والمضي في سياسة العزل والإقصاء والتنكيل حتى امتلأت السجون الإسرائيلية بالأسرى الفلسطينيين كما أسرعت الدولة «العبرية» الخطى في محاولة العبث بالأقصى الشريف والدفع بالدعاوى الزائفة والأفكار الخاطئة والبراهين المفبركة لكي تتمكن من «تهويد القدس» في شكلٍ كامل، كما غامرت «إسرائيل» أيضاً في مناسبات دولية متعددة بالحديث الرافض حل الدولتين، والعودة أحياناً إلى المربع الأول في مسار التسوية للمشكلة العربية الإسلامية الأولى وهي «القضية الفلسطينية»، وجدير بالذكر أن هناك عوامل أثرت في هذا التقارب بين جناحي المقاومة الفلسطينية «فتح» و «حماس» تحت مظلة «منظمة التحرير الفلسطينية». ويجب أن نتذكر أن جهوداً عربية ضخمة قد بذلت من أجل الوصول إلى ما نراه اليوم، فقد حاولت «مصر» و «السعودية» و «قطر» و «الأردن» وغيرها من الدول العربية الشقيقة دفع الفلسطينيين نحو المصالحة، بل إننا نتذكر اليوم أسماء كثيرة في هذا السياق في مقدمها الراحل عمر سليمان، ثم اللواء مراد موافي وغيرهما، كما نتذكر مؤتمر «مكة المكرمة» في رعاية خادم الحرمين الشريفين، ولا شك في أن هناك عوامل أساسية دفعت نحو هذه التسوية في مقدمها «الأزمة السورية» و «الثورة المصرية».
ثانيًا: إن تأثير ما جرى في «سورية» في «القضية الفلسطينية» يتجاوز بكثير حدود التصور، لأن «سورية» دولة مركزية محورية في «الصراع العربي – الإسرائيلي» حتى وإن لم تشتبك في قتالٍ مباشر مع الدولة العبرية منذ عام 1973، فهي تبقى دولة ذات مسؤوليةٍ كبيرة تجاه الفلسطينيين، إذ يجب ألا ننسى أن «سورية الكبرى» تضم تاريخياً «فلسطين» و «الأردن» و «لبنان» تحت المسمى التاريخي «بلاد الشام»، ولعل ما جرى في «سورية» في الأعوام الثلاثة الأخيرة إنما يجسد مأساة كارثية لواحد من أهم شعوب المنطقة وأكثرها اعتزازاً وإباء ومكانة «فعز الشرق أوله دمشق» كما قال أمير الشعراء «شوقي»، كما أن الحركة القومية العربية هي «شامية» المولد والنشأة سواء في بلد الأصل، أو في المهجر لذلك كان طبيعياً – والحال كذلك – أن يتأثر المسار الفلسطيني بما جرى في «سورية» في الأعوام الأخيرة، بل إننا نظن أن جزءاً من اتجاه «حماس» للتهدئة والمضي نحو المصالحة مع الجناح الآخر للمقاومة في حركة «فتح» إنما جاء نتيجة الشعور بغياب الظهير السوري، وأحسب أن موقف الزعيم الفلسطيني «خالد مشعل» رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» هو تجسيد لرد فعل ما نتحدث عنه مثلما هو الأمر بالنسبة لحركة «فتح» التي تأثرت هي الأخرى بالثورة المصرية على نحو ما سنبسطه لاحقاً، ولكن ذلك لا يعني في الوقت ذاته أن حركة «حماس» تأثرت بالثورة المصرية كما تأثرت حركة «فتح» بالمأساة السورية، فالتأثيرات متداخلة لأحداث المنطقة في الفلسطينيين، خصوصاً من دول الجوار المباشر، فالقضية في النهاية ليست فلسطينية فقط ولكنها أيضاً عربية إسلامية ذات أبعاد إنسانية ومؤثرات إقليمية.
ثالثًا: عندما نستقبل الأخبار الأخيرة عن تقدم الفلسطينيين في «فتح» و «حماس» نحو المصالحة الوطنية الشاملة، فإننا نتذكر الجهد المصري في هذا السبيل، وكيف كانت «مصر» دائماً داعمة تلك المصالحة، وساعية لها قبل ثورة 25 يناير وبعدها، ففي عهد الرئيس الأسبق مبارك حاولت «مصر» بقيادة عمر سليمان رئيس الاستخبارات وأحمد أبو الغيط وزير الخارجية حينذاك القيام بدور فاعل في هذا السياق، ولقد سألت السيد عمر سليمان ذات مرة عام 2009، هل «حماس» هي المعوق للمصالحة؟ فأجابني (إن عبء التأخير يقع على «فتح» و «حماس» معاً وليس على إحداهما فقط) وبعد ثورة 25 يناير دفعت «مصر» بقيادة اللواء مراد موافي رئيس الاستخبارات حينذاك بجهد ملموس أدى إلى توقيع اتفاق مبدئي بالمصالحة، وعندما وصل «الإخوان» إلى الحكم كان التنسيق المصري مع «حماس» قوياً بينما تميز التعامل مع «أبو مازن» وحركة «فتح» بالفتور، ولكن الأمور تحوّلت في اتجاه عكسي عندما وقعت انتفاضة 30 يونيو التي أطاحت حكم «الإخوان» وفتحت جسوراً للتواصل أكثر مع حركة «فتح»، بينما توترت العلاقات مع حركة «حماس» باعتبارها فصيلاً عسكرياً من «الإخوان المسلمين»، ولقد حافظت «مصر» على «شعرة معاوية» من التواصل القومي مع حركتي «فتح» و «حماس» معاً في محاولة مخلصة للتوافق الفلسطيني – الفلسطيني الذي أدى غيابه إلى آثار سلبية حادة على القضية برمتها. وإذا كنا قد ذكرنا من قبل أن تدهور الوضع في «سورية» كان عاملاً ضاغطاً على حركة «حماس»، والمناضل «خالد مشعل»، تحديداً للتوجه نحو المظلة التاريخية «لمنظمة التحرير الفلسطينية»، فإن المشهد المصري وتطوراته هو عامل رئيس في توجيه الحركتين معاً نحو المصالحة الوطنية.
… إننا إذ نكتب عن المصالحة الفلسطينية إنما نضع في اعتبارنا خلفية ما جرى في هذا السياق عبر العقود الأخيرة، حيث إن الأمر يتجاوز كثيراً موجة التفاؤل الطارئة التي ترددت في بعض المحافل العربية والدولية، ذلك أننا مررنا بمواقف مشابهة في السنوات الأخيرة وكنّا قاب قوسين أو أدنى من تحقيق «المصالحة الفلسطينية الشاملة»، ولعلنا نتذكر جهد الاستخبارات «المصرية» والدولة «السعودية» في هذا الشأن، فما أكثر التوقيعات التي جرت والإعلانات التي تمت وكان يبدو دائماً لنا أن كلا الطرفين «فتح» و «حماس» غير راغبٍ في إتمام المصالحة لإحساس منفصل لدى كلٍ منهما بالهوية الذاتية، فضلاً عن الخلافات الأيديولوجية المعروفة بينهما. لذلك، فإننا ما زلنا نترقب ما يجري بتفاؤل مشوب بالحذر، خصوصاً أن هناك بعض التصريحات الفردية التي تتناثر وتعطي إيحاء بأن بعض النفوس في الطرفين ما زالت غير خالصة! والشيء الوحيد الذي نؤكده هو أن كلاً من «حماس» و «فتح» قد اتفقتا ضد محمد دحلان «أبو فادي» وأعوانه في «غزة»، إن المسألة أكبر بكثير مما تبدو على السطح ولها في أعماق «القضية الفلسطينية»، جذورٌ لا يمكن اقتلاعها إلا بالنوايا الخالصة والمصالح المشتركة، وهنا يجب أن نعترف بأن ثورات الربيع العربي كانت في مجملها خصماً من مسيرة المصالحة الفلسطينية، إن لم نقل خصماً من المركز التفاوضي للجانب العربي في القضية الفلسطينية، فإسرائيل لاعب رئيسي في المنطقة تنتهز الفرص وتتحين الأوقات وتستثمر الظروف لتصفية القضية الفلسطينية، وتمديد الصراع نحو أبدية تستمتع فيها «إسرائيل» بدور من يدير الموقف من دون أن يعطي الشعبَ الفلسطيني حقوقه المشروعة في أرضه المحتلة ودولته المستقلة وعاصمتها «القدس الشريف».