ماذا وراء فشل خطاب التجديد الديني (علي مبروك)
علي مبروك
إذا كان النصف الأول من القرن التاسع عشر قد صرف همّه (مع الطهطاوى والتونسي) إلى قراءة أصول التمدُّن الأوروبى الحديث؛ على النحو الذى يرفع التناقض بينها وبين أصول الإسلام (من دون أدنى إحساسٍ بأى تهديدٍ للإسلام)، فإنه بدا وكأن النصف الثانى منه قد شهد (وبالذات مع الأفغانى الذى تعرَّف فى الهند على تجربة ذات وجهٍ امبريالى للحداثة) إحساساً متزايداً بالخطر الذى تمثله أوروبا وحداثتها على الإسلام.
لقد راح الأفغاني يمثل لذلك بما قرأه من إرجاع «المغفلين من الأفرنج»، لما يعيشه «المسلمون من فقرٍ وفاقة، وتأخر فى القوى الحربية والسياسية عن سائر الأمم»، إلى الإسلام وعقائده. إذ يرى الرجل أن الإسلام/ الأصل هو إسلام ما قبل التأويل، فإنه يبدو- لسوء الحظ- أن تحليلاً لتفكيره يكشف عن أن الإسلام المُستعاد عنده لم يكن إلا أحد التأويلات التى اتسع لها الخطاب الذى تحققت له السيادة فى الإسلام.
الحق أن الإسلام/ الأصل السابق على أى تأويلٍ لا وجود له أبداً، لأنه بمجرد اتصاله بالبشر يدخل فى عمليات تأويلٍ لا تتوقف أبداً. وهكذا فإن ما كان يستدعيه رجال الإصلاح كأصل، لم يكن إلا مجرد أحد التأويلات التى اتسع لها الخطاب الذى تحققت له السيادة فى الإسلام. فالحاصل أن هذا الخطاب المهيمن يتسع لأقوالٍ وتأويلات لا يلغى ما قد يقوم بينها من الاختلاف حقيقة اندراجها تحت مظلته الواسعة، بحسب ما يكشف التحليل. وبالطبع فإن كون الإسلام الذى يستعيده رجل الإصلاح بوصفه الأصل/ النقى هو- والحال كذلك- مجرد قولٍ مؤّول.
إنما يعنى أنه لا يختلف- فى العمق- عن نقيضه الذى يجرى النظر إليه على أنه الإسلام المُحرَّف. بل إن الأمر يتجاوز مجرد ذلك إلى حقيقة أنه يكاد- وللمفارقة- أن يكون بمثابة إعادة إنتاج لنفس ما جرى النظر إليه على أنه الإسلام/ المُحرَّف، وإن كان على نحوٍ مراوغ أو مخفف نسبياً. ولعل ذلك ما تؤكده قراءة مدققة لما كتبه الأفغانى حول عقيدة «القضاء والقدر» التى رأى رجل الإصلاح الكبير، أنها بمثابة «حصان طروادة» الذى يتسلل بواسطته الافرنج للنيل من الإسلام.
فإن الافرنج يذهبون- على قوله- إلى إن المسلمين قد «قعدوا عن الحركة إلى ما يلحقون به الأمم فى العزة والشوكة، وخالفوا فى ذلك أوامر دينهم مع رؤيتهم جيرانهم، بل الذين تحت سلطتهم يتقدمون عليهم ويباهون بما يكسبون، ونسبوا إلى المسلمين هذه الصفات وتلك الأطوار، وزعموا أن لا منشأ لها إلا اعتقادهم بالقضاء والقدر، وتحويل جميع مهماتهم على القدرة الإلهية، وحكموا بأن المسلمين لو داموا على هذه العقيدة فلن تقوم لهم قائمة، ولن ينالوا عزاً».
من جهته، فإن الأفغانى يأخذ عليهم أنهم لم يفرِّقوا «بين الاعتقاد بالقضاء والقدر وبين الاعتقاد بمذهب الجبرية القائلين بأن الإنسان مجبور فى جميع أفعاله، وتوهموا أن المسلمين بعقيدة القضاء يرون أنفسهم كالريشة المُعلَّقة فى الهواء تقلِّبها الرياح كيفما تميل»؛ وبما يحيل إليه ذلك من تمييزه القاطع بينهما. ومن هنا ما صار إليه من أنه «لا يوجد مسلم فى هذا الوقت من سنى وشيعى وزيدى واسماعيلى ووهابى وخارجى يرى مذهب الجبر المحض ويعتقد سلب الاختيار عن نفسه بالمرة (على طريقة الجهم بن صفوان).
بل كل من هذه الطوائف المسلمة يعتقدون بأن لهم جزءاً اختيارياً فى أعمالهم، ويُسمى (بحسب الأشعري) الكسب، وهو مناط الثواب والعقاب عند جميعهم». وضمن سياق هذه المقابلة، فإنه لابد من توقُّع أن «الكسب» سيقوم- عند الأفغاني- مقام الإسلام/ الأصل المقبول، وذلك فيما سيكون «الجبر» هو القول الناطق عن الإسلام/ المُحرَّف المرذول. وبعبارة أخري، فإن «الكسب» سيكون هو الأصل الذى جرى الانحراف عنه إلى «الجبر».
وبما لابد أن يترتب على ذلك من أن جوهر «التجديد» عنده سوف يتمثل فى السعى إلى استعادة الكسب/ الأصل، باعتباره النقيض الكامل للجبر/ الانحراف. ولعل ما يلفت النظر، هنا، هى تلك التسوية التى يقيمها الأفغانى بين الإسلام/ الأصل وبين الكسب؛ وهى التسوية التى تستهدف التغطية على المضمون الايديولوجى للكسب الذى يجعل منه مرادفاً للجبر على نحوٍ يكاد يكون كاملاً. ولسوء الحظ، فإنه يترتب بالفعل على هذه التغطية انفتاح الباب واسعاً أمام تثبيت الجبر الذى يجرى استدعاء الكسب لكى يكون الأداة التى ترفعه؛ وتلك هى مفارقة التجديد التى تجعله يؤول- عند الأفغاني- إلى تثبيت نقيضه.
إذ تكشف هذه القراءة عن أن القول الأشعرى فى القضاء والقدر الذى اعتبره الأفغانى بمثابة الأصل/ المقبول لا يكاد يختلف، فى جوهره، عن القول الجهمى فيها الذى اعتبره، فى المقابل، من قبيل التأويل المرذول؛ وبما يعنيه ذلك من إمكان اندراج الواحد من القولين الجهمى والأشعرى تحت مظلة الآخر، رغم ما يبدو من تباينهما الظاهر.
إذ يبدو أن جوهر التباين بينهما لا يتجاوز حقيقة أن أحد القولين (وهو الجهمي) يقرر «مذهب الجبر المحض» على نحوٍ صريح، وذلك فيما الآخر (وهو الأشعري) يقرر «مذهب الجبر» أيضاً، ولكن على نحوٍ مراوغٍ وملتبس.
هكذا فإن تحليلاً للكسب الأشعري، وتوابعه السياسية، يكشف عن كونه يمثل ضرباً من الجبر المُقنَّع الذى يغطى بالدين على الاستبداد فى السياسة. وبالطبع فإن ذلك يعنى وجوب اعتباره ـ شأنه شأن الجبرـ نوعاً من الانحراف عن الأصل الذى لا يمكن أبداًتصوره خارج ضرورة إثبات «الإرادة الحرة» للإنسان بما هى الأساس الذى يقوم عليه التكليف الإلهي. بل إنه يبدو أكثر إضراراً من الجبر؛ وذلك من حيث ما يخايل به من وهم الفاعلية الذى يكشف التحليل عن كونها محض فاعلية ظاهرية. ويعنى ذلك- بلا أدنى مواربة- أن الكسب الأشعرى الذى اعتبره الأفغانى من «أصول العقائد فى الديانة الإسلامية الحقَّة»، هو أحد أهم عوائق الإصلاح والتجديد.
وهنا تحديداً يقوم مأزق خطاب التجديد عند الأفغاني؛ وأعنى فى حقيقة أن ما رأى فيه «تجديداً» لم يكن- فى جوهره- إلا «ترميماً» يستبدل فيه مضموناً قديماً بمضمونٍ آخر من نفس نوعه. وإذ الأمر قد تجاوز الأفغانى إلى غيره من المجددين، فإن ذلك ما يلزم تجاوزه ضمن أى سعى لتجديد الخطاب الديني.
ميدل ايست أونلاين