دُول الخليج.. من ’’الاقتصاد الريعيّ‘‘ إلى الاقتصاد الإنتاجيّ
إذا كانت لتراجُع أسعار النفط تداعيات ومؤشّرات سلبيّة عدّة، مع تراكم الخسائر، وبالتالي العجز الماليّ للدُول المُنتِجة، فإنّه في الوقت نفسه، وفَّر فرصة إيجابيّة كبيرة وملحّة، دفعت دُول مجلس التعاون الخليجيّ إلى تكثيف جهودها، واستعجال خطواتها في مسيرة التنوّع الاقتصاديّ وتعدّد مصادر الدخل، بدلاً من الاعتماد كلّياً على عائدات النفط، وذلك باعتماد المبدأ الشائع القائل “خزينة الدولة جيوب رعاياها”، بفرْض سلسلة ضرائب، بدءاً من “الضريبة الانتقائيّة”، التي بدأت المَملكة العربيّة السعوديّة تطبيقها في العاشر من تمّوز (يوليو) الماضي، و”ضريبة القيمة المُضافة” التي حُدِّد أوّل كانون الثاني (يناير) المُقبل موعداً لتطبيقها من قبل حكومات دُول المجلس. وهاتان الضريبتان، هما جزء من برنامج “نظامٍ ضريبيّ” واسع أوصى به صندوق النّقد الدوليّ للانتقال التدريجيّ من “الاقتصاد الريعيّ” إلى “الاقتصاد الإنتاجيّ”.
لقد أثبتَ اقتصاد دُول مجلس التعاون الخليجي قدرته على تجاوز الأزمات الإقليمية والعالمية، باعتماده الكبير على ايرادات النفط، واحتفظ بموقعٍ متقدّم على المستوى العالَمي من ضمن قائمة أكبر 12 اقتصاداً عالمياً، وبلغ حجمه نحو 1.7 تريليون دولار مع نهاية العام 2014 . لكنْ يبدو أنّ اعتماده على النفط قد عرقل دَور القطاع الخاصّ ومساهمته في تعزيز نشاطات القطاعات غير النفطية ، حتّى أنّ وفرة التدفّقات النفطية على مدار عقود ماضية، لم تنجح في بناء اقتصاد قويّ، ولم تُسهِم في إنجاز إصلاحات اقتصادية ومالية واجتماعية، الأمر الذي أسهم بدَوره في عجز الحكومات عن التخلّص من نمط “الاقتصاد الريعي”، وذلك على الرّغم من الدعوات والخطط المتتالية القُطرية والإقليمية والدولية، لإعادة هَيْكَلة الاقتصادات الوطنية وتخفيض نسبة الاعتماد على النفط، والبحث عن إيرادات متنوّعة للخزينة العامّة، وتنويع القاعدة الاقتصادية، والارتقاء بإمكانات العمالة الوطنية، وتعزيز دَور القطاع الخاصّ عن طريق خصْخَصة بعض المشروعات بشكلٍ كلّي أو جزئي بالمشاركة مع القطاع العامّ.
اللّافت في هذا المجال، أنّ دُول مجلس التعاون جمعت خلال تلك الفترة ثروةً ماليةً كبيرة من عائدات النفط قُدِّرت بنحو 2.45 تريليون دولار، وبما يعادل 35 في المئة من مجموع الثروات السيادية في العالَم والبالغة قيمتها نحو 6.83 تريليون دولار. وفي رأي خبراء صندوق النقد الدولي أنّ لدى هذه الدُول إمكانات مالية ضخمة تؤهّلها لاحتضان برنامجٍ للتنويع الاقتصادي، يُجنّبها مخاطر تقلّبات أسعار النفط التي تتأثّر بعوامل عدّة لا تقتصر على مستويات الإنتاج فقط، بل تخضع لتطوّرات أمنية وسياسية واقتصادية، فضلاً عن عوامل نفسية لدى المُتعاملين في الأسواق، وعن متغيّرات خارج سيطرة الدول المُنتجة ؛ لذلك فإنّ تقليص الاعتماد على القطاع النفطي يُخرِج اقتصادات دُول الخليج من تحت رحمة التطوّرات في أسواق النفط العالمية .
وتبرز أهمّية استثمار عائدات النفط من خلال عملية حسابيّة بسيطة، فلو تمّ احتساب نسبة خمسة في المئة كعائد سنويّ، يوفّر أكثر من 122 مليار دولار، وهو مبلغ كبير يُسهم في تغطية الإنفاق الاستثماري أو الرأسمالي، لتنفيذ مشروعات أساسية إنتاجية، وخصوصاً في القطاع الصناعي، وبمُشاركةٍ مع القطاع الخاصّ، ولاسيّما الشركات الصغيرة والمتوسّطة التي أكّدت دراسات الجدوى أنّها أكثر تفاؤلاً بالأرباح من الشركات الكبيرة، وأكثر فرصاً لعمل المواطنين، وهي تشكّل حاليّاً نحو 86 في المئة من جملة عدد المنشآت الصناعية في دُول المجلس، إلّا أنّ حجم استثماراتها ضئيل جدّاً، ولا يتجاوز 22 في المئة من حجم الاستثمارات في القطاع الصناعي الخليجي.
إصلاحات ماليّة واقتصاديّة
في “رؤية المَملكة العربيّة السعوديّة 2030″، يبرز الهدف الرئيس المُشترَك لدُول مجلس التعاون في “تنويع مصادر الاقتصاد”، بشكلٍ يؤدّي إلى إحداث تحوّل جذريّ في الاقتصاد الخليجي عن طريق زيادة معدّلات النموّ، وتنويع القاعدة الإنتاجية، ودعم مصادر الدخل الحكومي، فضلاً عن تمكين القطاع الخاصّ من القيام بدَور أكبر في النشاط الاقتصادي، مع التركيز على رفع قدرة المُواطن وزيادة إنتاجيّته ومساهمته في سوق العمل.
لا شكّ في أنّ وضع “رؤية المَملكة” في السياق الخليجي يُمكن أن يُحقّق أهدافاً عدّة إضافيّة، وخصوصاً أنّ لديها أكبر اقتصاد عربي، أهّلهَا لتكون في عداد “مجموعة العشرين” التي تقود مسيرة الاقتصاد العالَمي، وتحتلّ المرتبة (19) عالميّاً لجهة حجم الناتج المحلّي، والذي بلغ العام الماضي نحو 750 مليار دولار. أمّا أهمّ هذه الأهداف، فهي تبرز من خلال تحقيق التناغم مع خطط التحوّل والتنويع الاقتصادي في دُول المجلس الخمس الأخرى، ووفورات الحجم عن طريق مضاعفة حجم السوق وزيادة الترابط بين المواطنين وقطاع الأعمال، وذلك في سياق تنفيذ السوق الخليجية المُشترَكة التي تهدف إلى زيادة حجم الاستثمارات وتمكين الشركات والمؤسّسات الخليجية والمستثمرين من مُمارَسة النشاط الاقتصادي في أيٍّ من دُول المجلس كسوق واحدة.
وبما أنّ معظم هذه الدول تمرّ بظروفٍ مُشابِهة لظروف المَملكة التي يشكِّل اقتصادها نصف الاقتصاد الخليجي، فهي تتطلّب إصلاحات جذريّة تستند إلى أُسس صلبة لتتحوّل من الاقتصاد النفطيّ (الريعيّ عموماً) إلى اقتصادٍ طبيعي متنوّع في الصناعة والزراعة والتجارة والخدمات بمختلف أنواعها، وتحقيق ذلك يُمكن أن يتمّ في خلال فترة زمنيّة أقصر بكثير ممّا لو سعت كلّ دولة بمفردها إلى التحوّل الاقتصادي المطلوب.
سبق لقادة دُول مجلس التعاون أن اتّخذوا في قمّتهم التشاوريّة في دَورتها السادسة عشرة التي انعقدت برئاسة خادم الحرمَين الشريفَين الملك سلمان بن عبد العزيز في مدينة جدّة بنهاية أيّار (مايو) الماضي، قرارات مهمّة من بينها قرار بتشكيل “هيئة الشؤون الاقتصادية والتنموية”، مهمّتها تعزيز التكامل والتنسيق ومتابعة تنفيذ رؤية الملك سلمان بتعزيز العمل الخليجي المُشترَك التي أقرّتها قمّة الرياض في كانون الأوّل (ديسمبر) 2015، ويقضي القرار الثاني بإقرار النظام الأساسي للهيئة القضائية الاقتصادية بما يحقِّق مصالح مواطني دُول المجلس. أمّا القرار الثالث فهو يقضي بالموافقة على اتّفاقيّتَيْن، الأولى خاصّة بالضريبة على القيمة المُضافَة، والثانية بفرض ضريبة انتقائيّة على بعض السلع الاستهلاكيّة.
وتشكّل الاتّفاقيّتان الإطار المُشترَك لإدخال هاتَين الضريبتَين في دُول مجلس التعاون، وقد بدأت التحضيرات اللّازمة لتطبيقها، بحيث يبدأ تنفيذ الضريبة على السلع الاستهلاكية بدءاً من العام 2017، والضريبة على القيمة المُضافة من أوّل العام 2018، على أن تكونا أساساً لإصدار التشريعات الضريبية الوطنية من جانب كلّ دولة عضو في مجلس التعاون، وعلى هذه الدول إنجاز ذلك قبل التاريخ المحدَّد لتطبيق الضرائب الجديدة، بهدف منح الشركات الوقت الكافي للتنفيذ السلس.
وهناك دُول كثيرة ، تفرض الحكومة فيها على مواطنيها ضرائب على الدخل، تتفاوت بحسب مستوى دخل الأفراد، وترفد خزينة الدولة بما يُمكّنها من تقديم الخدمات إلى مواطنيها. أمّا في دُول الخليج ، فلم تكُن الحاجة قائمة لفرض الضرائب على المواطنين، لأنّ ريع النفط كان كافياً لدعم الخزينة ، ولكنْ، مع التحوّلات الاقتصادية الجارية ، وخُطط تنويع مصادر الدخل في هذه الدول، تقرَّر فرْض هاتَين الضريبتَين ، وعلى الرّغم من البرنامج الضريبي الواسع الذي أوصى به صندوق النقد الدولي، فقد نشرت تطمينات على لسان بعض المسؤولين الخليجيّين، بعدم وجود نيّة لفرْض ضرائب على الدخل أو الشركات وسط خوف الناس من قادِمٍ مجهول يحمل لهم المزيد من الضرائب.
الضريبة الانتقائيّة
بدأت المَملكة العربيّة السعوديّة في 10 تمّوز (يوليو) الماضي، تطبيق الضريبة الانتقائية للسلع والمُنتجات ذات الأثر الضارّ على صحّة الإنسان والبيئة، وهي تشمل التبغ ومشتقّاته ومشروبات الطّاقة بنسبة 100 في المئة، والغازيّة بنسبة 50 في المئة، التزاماً بالاتّفاقات الدولية لمُكافَحة السلع الضارّة، وارتباط المَملكة ببرنامج الإصلاح الضريبي الخليجي. وقد وُصف الإجراء السعودي بأنّه إنجاز اقتصادي وصحّي، سيحفّز دولاً خليجية لتسريع خطواتها للاقتداء به ، بشكلٍ تدريجيّ وفق ظروف كلّ منها ، مع العلم أنّه يُتوقَّع أن تبدأ دولة الإمارات بتطبيق هذه الضريبة قبل نهاية العام الحاليّ . وتقدِّر الدراسات أن تبلغ إيرادات الضريبة على السلع الانتقائية في السعودية سنويا نحو 12 مليار ريال (3.2 مليار دولار)، ويُعتقد أنّها ستؤدّي إلى تقليص التكاليف التي تتحمّلها الدولة والأفراد، نتيجة ما تسبّبه المُنتجات الضارّة من استهلاكٍ لصحّة الإنسان، ويُلاحظ أنّ المدخّنين هُم الشريحة الأكبر الذين تطبَّق عليهم الضريبة، وتصل نسبة انتشارهم بين السعوديّين إلى 30 في المئة، أي نحو 6.5 مليون إنسان.
ضريبة القيمة المُضافة
تبدأ دُول مجلس التعاون الخليجي بتطبيق ضريبة القيمة المُضافة في أوّل العام 2018 ، وتقدَّر إيراداتها السنوية بنحو 25 مليار دولار ، على أساس نسبة 5 في المئة ، وتُعتبر ضئيلة عالميّاً مقارنةً برومانيا والبرازيل التي تصل النسبة في كلٍّ منهما إلى 43 في المئة ، وفي معظم دول أوروبا إلى 20 في المئة، وكذلك ضئيلة بالنسبة إلى الدول العربية، إذ تصل في الأردن إلى 18 في المئة، وفي لبنان إلى 10 في المئة (مرشَّحة للارتفاع)، وهي تُعتبر ضريبة غير مباشرة، وتُفرض على الفارق بين أسعار تكلفة الإنتاج وأسعار مبيع السلع الاستهلاكية، حيث يتمّ تحصيلها من جانب المؤسّسات لحساب الأجهزة الضريبية في دول الخليج، ويُنتظَر إعفاء نحو 100 سلعة من هذه الضريبة، وتشمل قطاعات الصحّة والتعليم، فضلاً عن الشركات الصغيرة والمتوسّطة التي تحقِّق إيرادات سنوية دون مستوى 100 ألف دولار. وبسبب تدنّي نسبتها، فإنّ تأثيرها على مؤشّر الأسعار لن يتجاوز 3 في المئة وفق دراسة بعض الخبراء، لذلك يتوقّع مضاعفتها إلى 10 في المئة بعد نحو 5 سنوات.
تحصل هذه التطوّرات كلّها، في ظلّ مُباركة صندوق النقد الدولي الذي أكّد مديره الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى الدكتور جهاد أزعور، أنّ دول الخليج تسير في الطريق الصحيح، بتطبيقها إصلاحات ماليّة لمواجَهة العجز في موازناتها مع انخفاض أسعار النفط ، داعياً في الوقت نفسه إلى “إجراءات إضافية”؛ وأضاف موضحاً: “إذا واصلت دُول الخليج إتّباع هذا المسار للسنوات الثلاث إلى الخمس المُقبلة ، فإنّ مستوى العجز سيتراجع الى ما دون 2 في المئة”. ورأى أزعور أنّ اعتماد الضريبة على القيمة المُضافة في العام 2018 ، خطوة مهمّة ، تُساعد على تنويع الإيرادات بعيداً عن النفط ، وتؤدّي إلى تقوية المؤسّسات الضريبيّة.
وفي تقريره “آفاق الاقتصاد العالَميّ”، توقّع الصندوق تسارع النموّ الكلّي في دُول الخليج في العام المقبل، وتوقّعت بياناته أن يسجِّل ميزان المعاملات الجارية في دُول المجلس فائضاً بنسبة 1.8 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي في العام الحالي، وذلك بارتفاعٍ قياسي من عجزٍ يبلغ 2 في المئة في العام الماضي، على أن يصل الفائض إلى2.1 في المئة في العام 2018.
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)