مآخذ لا تحصى وفوائد لا تنسى
الذين يهللون ويبتهجون للخصخصة في العالم العربي لا يكادون يرون شيئا من سلبيات هذه الموجة التي تكتسح العالم منذ ثمانينات القرن الماضي، كما أنّ معارضي الخصخصة ومنتقديها يتحلّون بنفس الحماس، ولكن في الاتجاه المعاكس، حتى أنهم يعتبرونها بمثابة الفاجعة التي سوف تحل بالفئات المتوسطة والفقيرة، فتزيد الغني غنى والفقير فقرا، ويستشهدون بنماذج لأزمات كثيرة حلت في مجتمعات غنية ومتطورة بسبب بيع أسهم القطاع العام للقطاع الخاص، فما بالك في اقتصادات هشة لدول مرتبكة في برامجها الإنمائية ووسط مجتمعات غير محصنة، يمكن أن تكون فريسة سهلة بين مخالب رأسمال محلي غير مسلح بقيم حقوقية وقد سد أذنيه عن كل المطالب النقابية والاستحقاقات الاجتماعية.
في المقابل، تعلو صراخات واحتجاجات المدافعين عن القطاع العام والمعارضين للخصخصة تحت ذرائع كثيرة ومتعددة لكنهم تناسوا السلبيات الكثيرة لركود اقتصاد بلادهم وبقائه مسجونا داخل متاهات بيروقراطية وغرف مظلمة من الفساد والانتهازية دون حسيب أو رقيب، أما كان الأجدر بنزع هذا الكابوس عن كاهل الدولة، وتخفيف الثقل المتراكم يوما بعد يوم في عالم بات فيه الأقوى هو الأكثر ديناميكية واستيعابا للقدرات التنافسية التي لا يمكن أن يديرها ويحركها إلا القطاع الخاص لما له من روح المبادرة والابتكار.
ربما لا يختلف اثنان في أن الخصخصة منهج وأسلوب اعتمد عليه العديد من الدول النامية والمتقدمة للتخلص من الحجم الزائد للقطاع العام وتحقيق الكفاءة الاقتصادية والكفاءة الإنتاجية، لكن العبرة بالنتائج، ومن ينظر إلى جملة الاحتجاجات والتظاهرات المقامة ضد الخصخصة في بلاد كثيرة، سيعيد التفكير في الأمر، ويدعو للتريث والتعقل قبل اتخاذ خطوة الخصخصة كقفزة في الفراغ، لكن الزمن لن ينتظر، وهذا هو السؤال الذي يحيلنا إلى المزيد من النقاش المتعمق والرصين بعيدا عن أي تشنج من هنا أو هناك.
الخبراء الاقتصاديون في العالم العربي يتفقون على أن الخصخصة حل، لكنها ليست الحل الأمثل، وإن عزمت الحكومات العربية على تنفيذها فيجب عليها أن لا تغفل سلبياتها ونتائجها التي ربما تكون وخيمة وسط مجتمعات تختلف عن نظيراتها في البلدان المتقدمة من حيث التشبع بثقافة العمل والمبادرة وعدم النظر لصاحب العمل كغول بشري يسرق قوتك ويتربص بك في كل لحظة، وعليه يجب الانتقام منه قبل أن يفترستي.
الحلول الوسطية واردة، لكنها ليست ناجعة بالضرورة، فلا مجال هنا للحديث عن ثقافة الاعتدال وحكمة لا تفريط ولا إفراط.
لنكن أكثر منطقية وواقعية، ونقر بأن الخصخصة في أبسط تعريفاتها هي نقل ملكية وإدارة وتشغيل مرافق القطاع العام إلى القطاع الخاص ويلجأ إلى هذا الخيار في حالة شح الموارد المالية للحكومة أو عندما يصعب العمل في إطار البيروقراطية الحكومية، وقد نجحت بعض تجارب الخصخصة في الدول الغربية، وتعثرت في بعض الدول خصوصا في العالم الثالث لبعض الشركات، وذلك لأن الخصخصة تعيش وتنمو في ظل إطار بيئة عمل تتوفر فيها الشفافية والمحاسبة والمكاشفة وحسن اختيار القادة.
وهنالك كثير من المآخذ على الخصخصة، فلقد صاحب كثير من عمليات الخصخصة حالات من الفساد والانتفاع لكثير من أصحاب القوى والشركات الكبرى في البلاد التي طبقتها، وحتى في ظل أقوى الدول شفافية وديمقراطية مثل بريطانيا، وهو أمر قد يتكرر لدينا، ولكي نمنع وجوده وحتى لا يصبح مصدر نفع لأشخاص أو كيانات تستفيد وتحتكر منافع الدولة، يجب تطبيق شفافية عالية وممارسات عادلة على الجميع، وقوانين وأنظمة صارمة تمنع تكوين كيانات تجارية ضخمة تحتكر أنشطة البلد، تتوسع من جراء عمليات الخصخصة وسن نظام ومساءلة شفاف وقوي، وتحديد الأهداف المستهدفة من الخصخصة على أن يتم تقييمها بشكل مستمر ودوري.