‘رحلة ابن جبير.. دراسة تركيبية وصفية’ بإمضاء نهلة شقران

تساؤلات كثيرة طرحتها د.نهلة الشقران حول أدب الرحلات في مدخل كتابها القيم “رحلة ابن جبير.. دراسة تركيبية وصفية”، منها: هل لهذا الأدب لغة خاصة وطرائق تعبيرٍ مميزة؟! هل يختلف الرحّالة في أساليبهم الكتابية؟! وهل تطبع الرحلة صاحبها بطابع لغوي خاص؟ وغيرها، مؤكدة أنها انطلقت من هذه التساؤلات في بحثها عن قيمة هذا الأدب اللغوية، وما يتضمّنه من أساليب تعكس شخصية الرحّالة.

إذ درَس الباحثون أدب الرحلات من جوانبه السياسية والاجتماعية والجغرافية والدينية، لكنهم أغفلوه من الجوانب اللغوية، ولم يتنبّهوا إلى ذلك إلا في فترة متأخِّرة كان التركيز فيها على أدب الرحلات الحديث والمعاصر.
وقالت أن كان اختيارها لرحلة ابن جبير الزاهد الورع – كما يصفه المترجِمون- جاء إعجاباً بشخصيته استتبعه بعد ذلك أسلوبه اللغوي “تتبعتُ أسلوبه اللُّغوي الذي يصف فيه ما شاهدَ من مسمَّيات، فدرستُ الجملَتين: الفعلية والاسمية عنده. ثم درستُ تراكيب متكرِّرة عنده كالتراكيب الدالة على التعجُّب والتراكيب الدالة على الدعاء والتراكيب الدالة على العدد، ثم وضعتُ معجماً صغيراً خاصاً بمفردات ابن جبير في رحلته”.

ولفتت الشقران إلى أن أكثر اهتمام الدراسات السابقة انصب على عرض مضامين الرحلة، لما تمثله من مصدر غني للمتخصصين في التاريخ والجغرافية.
وعددت الدراسات السابقة عن رحلة ابن جبير مثل بحث د.حسين نصار سنة 1963 في مجلة تراث الإنسانية المجلد الثالث، بعنوان “رحلة ابن جبير” تحدَّث فيه عن حياته وشعره، ثم عرَض لمضامين الرحلة، وكان كلامه مشابهاً للمقدمة التي وضعَها لتحقيق الرحلة، ودراسة عثمان موافي القصيرة عام 1973م بعنوان “لون من أدب الرحلات” التي تحدَّث فيها عن عموميات حياة ابن جبير، وأشار فيها إلى شعره ثم مضامين الرحلة.. ودراسةً عبدالقدوس الأنصاري “مع ابن جبير في رحلته” والتي نشرت في عام 1976 وكانت عبارة عن تلخيص للرحلة على طولها.. وغيرها.

الكتاب الصادر عن الآن ناشرون وموزعون جاء في ثلاثة فصول رئيسة، تناولَ الفصل الأول أهمية رحلة ابن جبير، والذي تخلَّله تصدير حول التعريف بابن جبير، ثم الكلام عن أدب الرحلات بعامَّة، ودوافعها، ومن ثم الكلام عن رحلة ابن جبير وتدوينها.
فيما درَسَ الفصل الثاني تركيب الجُمْلَة عند ابن جبير، الفعلية والاسمية، وأنماط كلٍّ وصورها وفروعها.وكَشَفَ الفصل الثالث عن التراكيب اللغوية المتكررة عند ابن جبير، والتي اشتملت على جُمَل التعجّب والمبالغة، وجُمَل الدعاء والثناء على الله، وجُمَل العدد والكمّ والتأريخ، كما ضَمّ الكتاب معجماً صغيراً خاصاً بمفردات ابن جبير في رحلته.

سبب الرحلة
ناقشت الشقران سبب رحلة ابن جبير فقالت أن السبب كما يوضحه المقري “أن أبا سعيد بن عبد المؤمن استدعاه، لأن يكتب عنه كتاباً
، وهو على شرابه، فدعاه لأن يشرب معه، فرفض ابن جبير قائلاً: يا سيدي ما شربتها قط. فقال أبو سعيد: والله لتشربنَّ منها سبعاً، حينها اضطر ابن جبير للشرب، فملأ له أبو سعيد الكؤوس السبعة دنانير، فأخذ الدنانير وقد عزم على أن يجعل كفّارة شربه الحج بتلك الدنانير”.

ويعلِّق د.حسين نصار على هذه القصة التي لَمْ تُذكر إلا عند المقري فيقول “إن القصة ملفَّقة مِن أساسها، فإذا كان ابن جبير قد خرج في رحلته الأولى، عام (578هـ) فإنّ الأمير أبا سعيد قد مات في سنة (571هـ)، فمن المحال أن يكون الحج في السنة نفسها، بل من المستبعد أن يكون الحج لهذا السبب، لما بين التاريخين المذكورين من مدة طويلة، يضاف إلى ذلك أن الرجل يثني في رحلته على تديُّن الموحِّدين، ويذمّ غيرَهم من الأمراء ويصفهم بالبعد عن الدين”.

أما الباحث قاسم أحمد عبدالعزيز فيقول “لقد انفرد المقري برواية هذه القصة، ولم يذكرها أحد قبله من أصحاب المصادر المعاصرة، أو القريبة من عصر ابن جبير، واستلهمت أغلب الدراسات الحديثة هذه القصة، وراجت كثيراً رغم ذلك فإن القصة تبدو ملفَّقة”.
وعقلت الشقران “لا أدري ما المانع من أن يكون قد حجَّ بعد مدَّة من وفاة الأمير، فلماذا لا يكون قد احتفظ بالمال إلى أن حان الوقت المناسب، ولربما شغلته أحواله عن البرّ بقسَمه بُرهة من الزمن، بسبب مرض زوجته التي وصف ألَمَها في شِعره، أو انشغاله بأولاده إلى أن كبروا واطمأن عليهم”.

الرحلة
وأشارت إلى أن ابن جبير رحل إلى المشرق ثلاث مرّات، حجَّ في كل واحدة منها، ولم يدوِّن إلا الرحلة الأولى التي ابتدأت يوم الخميس الثامن من شوال سنة (578هـ)،
وانتهت يوم الخميس الثاني والعشرين من محرم سنة (581هـ)، فجمع ما شاهد من عجائب البلدان، وغرائب المشاهد، وبدائع المصانع، في كتاب ممتِع مؤنِس مثيرِ سواكن النفوس.

وأما الرحلة الثانية فقد ابتدأت يوم الخميس التاسع ربيع الأول سنة (585هـ)، وانتهت يوم الخميس الثالث عشر من شعبان سنة (587هـ). وتذكُر المصادر أن ابن جبير قام برحلته هذه بعد سماعه بانتصار صلاح الدين يوسف بن أيوب على الصليبيين، وفتحه لبيت المقدس سنة (583هـ). وقد تمكَّن في هذه الرحلة من الحج إلى بيت الله الحرام، وزيارة المسجد النبوي، والمسجد الأقصى.

وأما الرحلة الثالثة فقد كانت بعد وفاة زوجته بأيام، فقد كانت وفاتها بسبتة سنة (601هـ)، وكان حزنه الشديد على وفاة زوجته “أم المجد” سبباً في هذه الرحلة، ولذلك لم يعد منها، “حيث وصل إلى مكة سنة (602هـ)، ثم ذهب إلى القدس ثم إلى مصـر والإسكندرية، فأقام فيها يحدِّث إلى أن لحق بربه يوم الأربعاء السابع والعشـرين، من شعبان سنة (614هـ)”.

أدبه وآثاره:
وأكدت الشقران أن ابن جبير كان أديباً متقناً للشعر والنثر، وعُرف بجمال الخَطِّ وأناقَته، لذلك عمل كاتباً عند أبي سعيد بن عبدالمؤمن (ت571هـ) وبعض أقربائه، ثم مدحَهم في شعره، وعندما توجَّه ابن جبير إلى المشرق جرت بينه وبين طائفة كبيرة من أدباء عصره مخاطبات ظهرت فيها براعته وإجادته.

وصف المراكشي شعره قائلا “ونظْمه فائق، وقفت منه على مجلد متوسط يكون قدر ديوان أبي تمام حبيب بن أوس، بجمع أبي بكر الصولي أو نحو ذلك، ومنه جزء سماه “نتيجة وجد الجوانح في تأبين القرين الصالح” أودعَه قطعاً وقصائد في مراثي زوجه أم المجد، بعد وفاتها والتوجُّع لها أيام حياتها، تزيد بيوته عن ثلاثمئة سوى موشحات خمس جعلَها قريباً من آخره، ومنه جزء سماه “نظم الجمان في التشكّي من إخوان الزمان”، ويشمل أزيد من مئتَي بيت في قطع. لكن هذا الديوان لم يصل إلينا، وإنما نجد بعض أبياته منثورة هنا وهناك، في كتب التراجم والأدب.

وأشارت إلى أن ابن جبير كان مدّاحاً لولاة الموحِّدين، فكانت قصائده المدحية وسيلةَ رزقه، فضلاً عن عمله الديواني، “ولكنه اتَّجه بعد رحلته بشعره اتجاهاً آخر، نتيجة شوقه إلى طيبة ومكة، وغيرهما من الأماكن المقدَّسة، فأصبحت مشاعره تحفزه للعودة”، واستطاع الحنين الرقيق أن يدمغ أكثر شعره بطابعه، فضلاً عن طابع النصائح والحكم والحث على مكارم الأخلاق.

فمن شعره في تذكُّر طيبة:

يا أَهْلَ طَيْبَةَ قَلْبي
أَشْكو إِلَيْكُمْ زَماناً
وَبَعْدَكُمْ لَسْتُ أَرْضى
وَدَمْعُ عَيْني عَلَيْكُمْ
عَنْ مَنْهَجِ الصَّبْرِ جارا
عَلَيَّ بِالْبَيْنِ جارا
مِنَ البَرِيَّةِ جارا
لِأَدْمُعِ الْمُزْنِ جارى
ومن شعره في الشوق للأماكن المقدَّسة:
طالَ شَوْقي إِلى بِقاعٍ ثَلاثٍ
إِنَّ لِلنَّفْسِ في سَماءِ الأَماني
قُصَّ مِنْهُ الجَناحُ فَهْوَ مَهيضٌ
لا تُشَدُّ الرِّحالُ إِلاّ إِلَيْها
طائِراً لا يَحومُ إِلا عَلَيْها
كُلَّ يَوْمٍ يَرْجو الْوُقوعَ لَدَيْها

أما عن نثر ابن جبير فرأت الشقران أنه “بديع وسهل وفقاً لِما جاء عند ابن الخطيب والمراكشـي، وقد أورد ابن الخطيب بعض حِكَمه النثرية. وبسبب انصـرافه إلى الكتابة الديوانية وما تحتاجه من إتقان أسلوبي، ظهَر السجع في نثره، بَيد أنه كان قليلاً في رحلته، فهي التي تمثل مذكِّراته الخاصة التي خرج بها عن الكتابة الديوانية، حيث دوَّن فيها بعض الوقائع والأماكن التي شاهدَها. وأهمية نثره تمثل في رحلته الشهيرة، لما تضمنته من قِيَم لغوية وجغرافية وتاريخية وسياسية واجتماعية.

وخلصت الشقران في كتابها إلى أن ابن جبير كتب رحلته على شكل مذكرات يومية، لذلك جاءت لغته بسيطة سهلة، وتأثر بموصوفه فمال أحيانا إلى استخدام السجع والجناس في كلامه، مما جعل لغته غير متوازنة. ويبدو أنه فضّل الوصف بصيغة الماضي أكثر من المضارع، فهو ينقل أحداثه للقارئ متتابعة مؤرخة بعد انتهائه إلا نادراً عندما يهدف إلى بيان عادة أو تصرف دائم لموصوفه.

واستخدم الجملة الاسمية في وصفه عند اهتمامه بالموصوف وتفصيل القول فيه من خلال ذكره أو ذكر ما يعود عليه كالضمير أو اسم الإشارة.وكان ابن جبير يبالغ في وصفه أحياناً فيستخدم أساليب تعجبية خاصة وأساليب تفضيلية متنوعة. ولجُمل الدعاء أثر في نفس القارئ حول تميّز الموصوف وتفرده، علاوة على إظهار صلته الوثيقة بالله واللجوء إليه دوماً.
وقد اعتنى بوصف الأماكن المقدسة وصفاً دقيقاً من خلال ذكر العدد والكم الخاص بموصوفه، ولم يغفل التقديم والتأخير الذي قصد فيه إظهار أهمية موصوفه.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى