الصين منخرطة في رهان على رافعتي الابتكار والتقدّم العلمي
أثناء زيارتي الصين أخيراً، قصدت مدينة «تشيندو» الصناعيّة الكبيرة، التي تستضيف أيضاً مجموعة كبيرة من معامل البحث العلمي. واستباقاً، تعطي المدينة نموذجاً عن مسار متصاعد للعلوم والتقنيات المتطوّرة في الصين، خصوصاً منذ بداية القرن الـ21، ما يؤشّر على رهانها العميق على العلم وتقنيّاته وبحوثه. وبين عامي 2007 و2012، بلغ إجمالي الاستثمارات الحكوميّة الصينيّة المستخدمة في العلوم والتكنولوجيا قرابة 873 بليون يوان (ما يزيد على 130 بليون دولار).
وبالنظر إلى ضخامة هذا الرقم، يرد في الذهن سؤال عما إذا كانت الصين كشفت فعليّاً عن برامجها البحثيّة بوضوح؟ الأرجح أن الإجابة هي «لا»، بل «لا كبيرة». ومن يتابع ذلك البُعد في الصين، يصل بسهولة إلى استنتاج مفاده أننا لا نعرف كثيراً عنه، بل ربما جهله حتى الأوروبيّون والأميركيّون.
وببساطة، لا تبدو الصين معنية بالكشف عن كل ما لديها. ربما يرجع ذلك إلى المنافسة الشرسة مع الغرب، أو لارتباط البحث العلمي بالصناعات العسكرية الصينيّة، أو لأسباب أخرى.
يتوجّب علي الإشارة أيضاً إلى أن الصين احتفلت بفوزها بجائزة نوبل للطب عام 2015 للمرّة الأولى، إذ أحرزت الجائزة البروفسورة تو يويوتو، بفضل قيادتها فريق بحث في بكين اكتشف عقاراً لعلاج الملاريا مشتقاً من أدوية ونباتات تقليديّة. وآنذاك، نالت الصينيّة نصف الجائزة منفردة، فيما تقاسم البروفسوران الأميركي ويليام سي كامبل (من جامعة درو في ولاية ماديسون في ولاية نيوجيرسي)، والياباني ساتوشي أومورا (من جامعة كيتاساتو في اليابان)، مكافأة على تطويرهما علاجات مضادة للديدان المدورة الطفيليّة.
من المتوقع خلال السنوات المقبلة أن تستحوذ الصين على مزيد من جوائز نوبل في العلوم. وتناولت مجلة «نايتشر» العلمية ذلك الموضوع أخيراً، مشيرة إلى أنّ الصين أحرزت تقدّماً هائلاً في المجالات العلميّة كلّها، خلال العقدين الماضيّين. إذ فاق استثمارها في البحوث العلمية والتنموية ما يرصده «الاتحاد الأوروبي» لتلك الأغراض. ويتوقّع أنّ يتخطى إنفاقها على البحوث سنويّاً ما تنفقه الولايات المتحدة الأميركية، بحلول نهاية العقد الثاني من القرن الـ21. وقفزت نسبة مشاركة العلماء الصينيّين في تأليف الأوراق البحثية المنشورة عالميّاً من 2,4 في المئة عام 1997 إلى 19 في المئة عام 2014، بينما لا تتجاوز أرقام الولايات المتحدة في ذلك المجال 25 في المئة!
واستناداً إلى تلك المعطيات، تبذل الصين جهوداً حثيثة لرعاية صغار الباحثين، تقودها مجموعة من كبار علمائها، من بينهم تشو نغدينغ المختصّ في النبات، وشيتاو تشاو المختص في جهاز المناعة. وكذلك يستند هؤلاء إلى الثقافة الصينيّة الموروثة التي تمثل أحد أسرار تماسك الصين حتى الآن. ويستفيدون من مقولات صينيّة مأثورة كـ «إذا قام أحد ما بدور المعلم لك ليوم واحد فقط، فعليك اعتباره في مقام والديك حتى آخر عمرك».
وهناك علاقة متميّزة تماماً بين علماء الصين المتمرّسين ومن يشرفون عليهم من صغار الباحثين، ربما عبّر عنها استخدام كلمة «شيفو» Shifu التي تصف العالِم الراعي والمعلم سويّة.
وتعطي الكلمة نموذجاً عن التفكير بأنّ طبيعة تلك العلاقة من المسلّمات، بل إنها أدّت إلى سيادة جو من الانضباط في أوساط البحّاثة في الصين.
في سياق متّصل، صدرت كتب كثيرة في الغرب لتفسير الملامح الخاصة بالبحث العلمي في الصين، يبرز من بينها كتاب «مِن السور العظيم إلى المصادم العظيم… الصين في رحلة للكشف عن أسرار الكون» From the Great Wall to the Great Collider: China & the Quest to Uncover the Universe، من تأليف ستيف ناديس وشينغ تونغ ياو (مطبعة بوسطن، 2015).
ويقدّم الكتاب إجابة على السؤال بشأن اهتمام الصين بتشييد «المصادم العظيم» في الصين. ويجري ذلك عبر تعاون بحثي أوروبي- صيني غير مسبوق في مجال الفيزياء النوويّة. وتذكيراً، يحتل «مصادم هادرون الكبير» مكاناً بارزاً في السجل العلمي للاتحاد الأوروبي، واستطاع التوصّل إلى عدد كبير من الاختراقات العلميّة بشأن الذرّة وتركيبها، لعل الأقرب منها إلى الذاكرة هو إثبات وجود مكوّن ذرّي أولي يحمل اسم «بوزون هيغز» Boson Higgs عام 2012، ما أهدى جائزة «نوبل» في الفيزياء في العام التالي، إلى العالِم البريطاني بيتر هيغز الذي وضع الأسس النظريّة له. ولا يمثّل المُصادِم التعاون العلمي الوحيد بين الصين وأوروبا، بل أطلقا معاً مسباراً فضائياً هو «النجم المزدوج» عام 2003، لدراسة العواصف المغناطيسيّة التي تصدر من الشمس. وآنذاك، اعتبر المسبار تأكيداً على ولوج الصين بقوة عالم الفضاء والأقمار الاصطناعيّة. يبقى السؤال: إلى أي مدى تذهب الصين في صناعة العلم مستقبلاً؟
في السجل العلمي للصين المعاصرة أنّها صنعت سيارة مِن دون سائق توجَّه بالأقمار الاصطناعيّة، فنافست مثيلاتها الأميركيّة. وأدى ذلك الأمر إلى احتدام المنافسة مع اليابان أيضاً، في مجال صناعة الإنسان الآلي (روبوت) ووضعه في استخدامات متنوّعة.
بكين تتحوّط لآفاق الشيخوخة الداهمة
تبدو الصين واعية تماماً لما سيحيق بها مع ارتفاع سن الشيخوخة، وتراجع أعداد المواليد، وارتفاع كلفة اليد العاملة في ظل ارتفاع مستوى المعيشة وما إلى ذلك، إذ تعتبر الشيخوخة من أهم التحديات التي تواجه الاقتصاد الصيني. وخلال العقود الماضية، انخفض معدل المواليد في الاقتصاد الثاني عالميّاً نتيجة تبني سياسة «الطفل الواحد للأسرة الواحدة» منذ عام 1980، وارتفع معدل التعليم والتحضر، وتراجعت أيضاً خصوبة النساء إلى معدل أقل بكثير مما تطلبّته عملية الإحلال والإبدال الطبيعيّة للسكان، ما أدى إلى تراجع معدل النمو السكاني بوضوح.
ومن المتوقع أن يرتفع إجمالي عدد السكان في الصين تدريجاً ليصل إلى قرابة 1450 مليون شخص عام 2035. وبعد ذلك، ومع الوصول إلى عام 2050، يتوقّع أن ينخفض عدد السكان بقرابة 64 مليون نسمة.
الأرجح أن السوق الضخمة تجعل مِن الصين دولة ذات فرص متعدّدة واعدة، ما يوفر فرصاً متميّزة لصناعة تكنولوجيا المعلومات، إذ تحظى شركة «هواوي» الصينيّة للخليوي، بدعم مطلق من الحكومة والشعب على حدّ سواء.
ويسود شبه تسليم بأنّ تكنولوجيا المعلومات تمثّل تحدياً في إطار التنــافس مع الولايات المتحدة.
خليوي وتجارة إلكترونيّة
في السياق، يبرز دور متميّز لقطاع الخدمات الصيني مدعوماً بارتفاع سريع في القوة الشرائيّة للمستهلكين الصينيّين. وفي مجال التجارة الإلكترونيّة، أصبحت الصين مِن أكبر أسواقها عالميّاً. وبلغت قيمة مبيعاتها قرابة 400 بليون دولار عام 2013، فتفوّقت بذلك على الولايات المتحدة. ويعود ذلك إلى الاستخدام الواسع لشبكة الإنترنت والهواتف الذكيّة في معظم المدن الصينيّة.
في سياق متّصل، تنظر الصين إلى مسألة حجبها عدداً من المواقع الرقميّة الأميركية والأوروبية، بوصفه دفاعاً عن الهويّة. لذا، فإنها تبني حالياً برامج ضخمة للابتكار والإبداع، تستند إلى معطيات من قلب الثقافة الصينيّة. وكذلك تعمل بدأب على نقل شركاتها في الموضة، إلى مرحلة التصدير من الصين إلى العالم قاطبة، كي تُضاف إلى ما تصدّره بلاد «العم ماو» من السيارات والأثاث والساعات والهواتف الذكيّة وما لا يحصى من السلع والأدوات. إذاً، هل تضع الصين خططاً لنقل دور أزياء باريس وميلانو إليها؟ هل تنجح في ذلك؟
صحيفة الحياة اللندنية