البنّا والبارون.. مرحلة تأسيس الجماعة
تاريخ جماعة الإخوان في مرحلة نشأتها وجذورها كان غامضاً، ويثير العديد من التساؤلات والشبهات التي تركت الإجابة عنها للزمن بناء على الأحداث المتعاقبة التي كانت تكشف لنا من واقعة لأخرى أن هذه الجماعة كانت تظهر بوجه وتصدمنا لاحقاً بوجهها الآخر، وكانت أول وأخطر أكاذيب الجماعة منذ إعلان تأسيسها هي تأكيدات المرشد والمؤسس حسن البنا على عدم علاقتها بالشأن السياسي، وإنكاره وجود أي مساع لتسييس الجماعة، في حين كانت المؤشرات المتلاحقة تعطي دلالات واضحة على أن التنظيم لديه أهداف ومخطط سياسي منذ الانطلاقة، وهذا ما حدث لاحقاً عند إعلان البنا خلال المؤتمر الخامس للجماعة بدء النشاط السياسي للتنظيم عام 1938 بعد 10 سنوات من التأسيس، وتلا ذلك الكثير من الأحداث المفزعة، من بينها اكتشاف حقيقة التنظيم السري للجماعة الذي نفذ سلسلة من المؤامرات والاغتيالات في عهد مؤسسها ضد قادة السلطات المصرية، بدلاً من مكافحة قوى الاستعمار الأجنبي الذي نددت به الجماعة علنا
ثم عقدت معهم الصفقات الخفية بطرق مباشرة وغير مباشرة، فأصبح الثابت لدينا وفقاً لتسلسل الأحداث التاريخية أن هذه الجماعة هي عالم يختلف ظاهره عن باطنه، بل تجمعهم قواسم وصفات مشتركة مع الجماعات الصهيونية، من حيث العلاقات السرية والتخطيط للهدم والتدمير والخراب، كما تأسست منظومتها على الطبقية بين قيادات التنظيم، ومبدأ الطاعة العمياء بين القادة ومن بعدهم الأتباع، الذين انضموا إليهم من منطلق تدينهم الفطري وانجذابهم نحو الخطب العصماء والشعارات الدينية، التي أوهمتهم بأنهم رسل الله لتحقيق السعادة في الدنيا والجنة في الآخرة، ليتحول هؤلاء الأتباع إلى وقود للمعارك التي يشعلها قادة التنظيم طمعاً في السلطة ومن يقف وراءهم من خلف الستار، وهم الأجهزة الاستخباراتية الأجنبية والمنظمات الماسونية التي تغلغلت في العالم العربي والإسلامي منذ القرن الـ18 في العلن والخفاء، ثم اكتشفت حقيقتها لاحقاً بعد مضي سنوات وعقود من استضافتها واستقطابها الكثير من الشخصيات السياسية والعامة، وتوظيفهم لتحقيق أهدافها الهدامة، وعلى رأسهم أهم الشخصيات في تاريخ جماعة الإخوان.
في هذه القراءة الممتدة، نقدم للقراء سلسلة من الحلقات الاستقصائية التي تبحث في موضوع واحد: «التاريخ المشبوه لجماعة الإخوان»، ومن خلالها نعيد تسليط الضوء على محطات وأحداث مهمة في تاريخ الجماعة، من منظور يراعي التطورات التي طرأت مع الزمن، خاصة بعد تصنيف الجماعة في العديد من دول العالم باعتبارها كياناً إرهابيا، وهو ما دفعنا للعودة والبحث في الجذور وإعادة قراءة الأحداث التاريخية مجدداً، وربطها تسلسلياً منذ نشأة التنظيم إلى الحقبة التي نعيشها اليوم، وذلك لأن النهايات موصولة بالبدايات
ولأننا نهدف من ذلك توضيح الحقائق للأجيال الحديثة التي نشأت في العقد الأخير من القرن الماضي ومطلع الألفية الثالثة وكل من لم يتسن له الاطلاع على هذه المعلومات التي اجتهدنا في جمعها وتوثيقها وربطها، لتوضيح الكثير من الحقائق الغائبة والملتبسة والأسباب التي أفضت إلى الفتن والخلافات التي نعيشها اليوم، منذ فوضى ما سمي بثورات الربيع وعودة ظهور الإخوان على الساحة السياسية من جديد ثم سقوطهم في وقت قياسي، وما تبع ذلك من تنام في أنشطة الجماعات المتطرفة والإرهابية وكل ما أخرجته لنا الإخوانية من رحمها الفاسد من شتى أصناف الجماعات التكفيرية، التي باتت توظف التطور التقني الهائل والانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي لإعادة بث سمومها الفكرية وتضليل الرأي العام من خلال إعادة إنتاج وتناسل أفكارها القديمة (إحياء دولة الخلافة)، والعمل مجدداً على هدم كل معالم ومظاهر المدنية ومواكبة العصر والتطور وقيمها النبيلة باعتبارها من مفاسد الإمبريالية ومخلفات الاستعمار الكافر، تماماً كما فعلت في حقبتها الأولى وعقود خلت.
النشأة والتأسيس.. خلافات وفتن وفضائح
كان الكثير من الناس بما في ذلك أتباع جماعة الإخوان يعتقدون أن حسن البنا أسس الجماعة في الإسماعيلية عام 1928، ولكن الحقيقة هي أن تاريخ التأسيس الحقيقي لجماعة الإخوان ومن أسسها يشوبه الغموض في الكثير من المراجع، وهو موضع خلاف كبير جداً نشأ فعلياً مع تاريخ مولد الجماعة الذي اختلفت المصادر حوله وعلى من هو مؤسس الجماعة، هل هو حسن البنا مرشد الجماعة الأول، أم نائبه وصديق عمره وابن قريته أحمد السكري؟
هذا الموضوع من المؤكد أنه قد أثار ضغينة كبيرة في نفوس الشركاء، ولم تظهر حقيقته على الملأ إلا بعد 27 عاماً من التاريخ الذي يرى السكري أنه أسس فيه الجماعة عام 1920، إذ شهد العام 1947 واقعة شهيرة وسابقة خطيرة في تاريخ الجماعة والمعروفة بـ«فتنة السكري»، التي تسببت في فصل الرجل الثاني في التنظيم، وكانت أحد أخطر الخلافات الداخلية في تاريخ الجماعة، حيث تبعته سلسلة من الانشقاقات بين القيادات والأعضاء، وهذا الخلاف لم تعرف تفاصيله بدقة آنذاك، حيث كانت الرواية الرسمية للجماعة تقول إن سبب فصل السكري هو «التمرد، وبث الفتنة، والاتصالات الضارة بمن يُناوئون الدعوة ويريدون بها السوء، والتجسس على مخاطبات ومكالمات البنا الخارجية والداخلية، وأخذه مبالغ من جهات مختلفة باسم الإخوان لم يوصلها للجمعية»
إلا أن جذور العلاقة بين البنا والسكري منذ النشأة كشفت تلقائياً جزءا كبيرا من الحقيقة التي كانت غير معروفة وغامضة بالنسبة للأتباع، إلى أن أثارها السكري بعد خروجه من الجماعة في سلسلة مقالات نشرها في جريدة «صوت الأمة» ابتداء من تاريخ 11 أكتوبر 1947، والتي كان يصدرها حزب الوفد المنافس للجماعة، وكشف فيها حقائق وفضائح تنظيم الإخوان المشبوه، بعد أن لقي «جزاء سنمار» من صديق العمر الذي انقلب عليه وطرده من الجماعة، وبين فيها السكري أنه المؤسس الحقيقي للجماعة وأنه آثر تقديم البنا مرشداً على نفسه عندما طرح الأخير فكرة البيعة، حيث قال في مقاله الأول بعد طرده من الجماعة موجها الحديث للبنا: «استعنت بك أول الدعوة المباركة حتى إذا ما صلب عودك وأكملت دراستك وزاولت عملك في الإسماعيلية وأنشأت شعبة أخرى، وفتح الله لك القلوب، وتعددت فروع الجماعة، آثرتك على نفسي وبايعتك، وطلبت من الناس أن يبايعوك».
وجذور القصة ابتدأت في قرية المحمودية بمحافظة البحيرة المصرية مسقط رأس حسن البنا التي ولد فيها بتاريخ 14 أكتوبر 1906، وتعرف فيها منذ الصغر على صديقه أحمد السكري، الذي يكبره بخمس سنوات، حيث التقيا بداية في جمعية الإخوان الحصافية, ثم أسسوا سوياً «الجمعية الحصافية الخيرية» بهدف محاربة المنكرات والتصدي لحملات التبشير المسيحي التي قادتها في البلدة آنذاك سيدة تدعى «مسز وايت»، خلال فترة عملها بالتطبيب وتعليم التطريز وإيواء الأطفال الأيتام، وكان السكري رئيساً للجمعية والبنا سكرتيراً
وتطورت الجمعية وتوسعت في أفرعها لتأخذ مسمى جماعة «الإخوان المسلمون»، بحسب روايات العديد من أعضاء الجماعة الذين عاصروا تلك المرحلة، وأكدوا أن أحمد السكري هو المؤسس الحقيقي للجماعة وكان ذلك عام 1920 في المحمودية، بالاشتراك مع حامد عسكرية وعلي عبيد، ثم دعوا إليها حسن البنا الذي كان عمره حينها 14 عاما، بهدف المشاركة في توسيع قاعدة نشاطها الدعوي في جميع أرجاء المحافظة، ولكن البنا غادر لاحقاً إلى القاهرة وهو في الـ16 من عمره للالتحاق بكلية دار العلوم بالقاهرة، التي تخرج فيها عام 1927، وفي تلك الفترة اتصل البنا بالشيخ محب الدين الخطيب ورشيد رضا اللذين كان لهما تأثير كبير على تطوير أفكاره، وعلاقته بهما مبحث طويل سنتطرق إليه لاحقاً في حلقة أخرى.
ثم جاء تعيين البنا في مدينة الإسماعيلية مدرساً للخط العربي بالمدرسة الابتدائية الأميرية عام 1927، وهناك جمع عدداً من الأتباع له من خلال نشاطه الدعوي والوعظي، معلناً تأسيس جماعة الإخوان بتاريخ 23 مارس 1928، وهو التاريخ الأكثر تداولاً في المراجع والكتب التي أجمعت بأن جماعة الإخوان المسلمين تكونت على يد حسن البنا في الإسماعيلية وهو من صاغ بناءها الفكري والمخطط الأول لتنظيمها وقام بتحديد مسارها وخطواتها، إلى أن جاءت «فتنة السكري» بعد التأسيس بسنوات طويلة لتكشف لنا عن جذور الخلاف الحقيقي وحجم الغبن والضغينة التي تغلغلت بين المرشد ونائبه.
ولكن ليس المهم كثيراً أن نعرف أن هناك تاريخين لنشأة الإخوان، وما إذا كان حسن البنا هو مؤسس الجماعة، أم أن أستاذه أحمد السكري هو المؤسس الحقيقي، أو أن البنا سرق الزعامة منه، الأمر الأهم بكثير هو معرفة حقيقة ارتباط البنا بالاستخبارات البريطانية، والتي كشف السكري في مقالاته المنشورة في «صوت الأمة»، بعد طرده من الجماعة، عن أجزاء محدودة عنها، حيث قال السكري: «حاولت الجاسوسية الإنجليزية أن ترشو الإخوان بـ20 ألف جنيه، وذلك بعدما اتفقت الجماعة قبل نهاية الحرب العالمية مع الإنجليز، ففي يوم 25 أغسطس 1940 حضر الجنرال كلايتون وبصحبته المستشرق المستر هيورث دن، وقابلا حسن البنا بدار الجمعية القديمة، وأخذا يتحدثان عن دعوة الإخوان المعادية للاستعمار البريطاني، وللاستيطان الإسرائيلي في فلسطين المحتلة»
وأوضح السكري أن البنا أحالهم للاجتماع به، وتم ذلك في منزله لاحقاً، وقالوا له حينها: «إن هذه الدعوة الناشئة يجب أن تقوى بالمال لتستطيع أن تؤدي رسالتها على أوسع مدى، لهذا رأينا أن نمد لكم يد المعونة باسم الديمقراطية، وها نحن نقدم لكم الآن مبلغ 20 ألف جنيه دفعة أولى، هذا فضلا عن سيارة نهديها لك شخصيا بمناسبة عيد الأضحى»، فتفاجأ السكري من عرض الرشوة، موضحاً أنه رفض قبول السيارة، أما عن مبلغ الـ20 ألف جنيه، فطلب الإفصاح عن تقديمها إلى الجماعة، فرد هيورث قائلاً للسكري: «إننا لا نبغي بذلك أن تنقلبوا أصدقاء، لأن الخيط الأبيض إذا انقلب إلى أسود في الحال يلفت النظر- وهذا تعبيره بالحرف الواحد – غير أن لكم نحو 450 أو 500 شعبة في مختلف البلاد، والألمان والطليان في طريقهم الآن إلى مصر، ونحن نخشى أن نطعن من الخلف»، وختم السكري المقال: «وبعد حوار طويل وجدوا نهايته مسدودة قاموا منصرفين، وكانت آخر مقابلة لي معهم حتى اليوم، بعدها استدعيت البنا، وقصصت عليه ما حصل بالتفصيل، فصمت ولكن هل دام هذا الصمت؟»، ولم يكمل السكري أي تفاصيل أخرى.
ثم عاد السكري في مقال لاحق، وكشف فيه عن اتصالات البنا بالقوى الأجنبية والمصرية العميلة، قائلاً: «وقفت أمنعك من هذا التصرف المشين، حتى اكتشافي عن طريق الصدفة، اتصالاتك ببعض الشخصيات الأجنبية والمصرية، وهالني ما حدثني به أحدهم يوم 7 فبراير من العام ذاته»، وتوقف عند ذلك الحد دون إكمال كشف الحقائق لأسباب مجهولة، ولكن سنكتشف الحقيقة تباعاً عندما نعود مجدداً للجذور، ونقصد بذلك مرحلة تأسيس الجماعة في الإسماعيلية، وسر العلاقة بين الإنجليز والبنا.
مرحلة جمع الأتباع في الإسماعيلية
عندما انتقل البنا إلى الإسماعيلية في 16 سبتمبر 1927، سكن حينها مع زميل له في غرفة واحدة في منزل (بنسيون السيدة أم جيمي الإنجليزية)، وكانت الإسماعيلية في ذاك الوقت أشبه بمدينة أوروبية، فغالبية سكانها أجانب من جنسيات مختلفة، وغالبية العاملين في الوظائف المرموقة هم من الأجانب، وحاكمها كان أجنبياً، والجيش الرابض فيها هو جيش الاحتلال البريطاني، وبها شركة قناة السويس وهي عبارة عن خليط من الفرنسيين والإنجليز والأمريكيين، أما أهل البلد المصريون فكان غالبيتهم من البسطاء ولا يحظون بمراتب وظيفية عليا في ظل هيمنة الأجانب على العديد من القطاعات في المدينة.
بدأ البنا نشاطه الدعوي في مساجد الإسماعيلية بعد فترة وجيزة من انتقاله إليها، وكان غالبية السكان ينتمون إلى المذاهب والفرق الصوفية المتعددة التي ارتبط البنا بها في نشأته، ولكنه لم يستطع أن يجاري مناقشة شيوخ الحلقات التي تقام هناك، لأن أسلوبه كان يعتمد على قدراته وموهبته في الخطابة، ولكنه ليس فقيهاً أو منظراً أو مفكراً حتى يتسنى له الدخول في مثل هذه الجدالات الفقهية المعقدة، كما أن مساجد مدينة الإسماعيلية شهدت خلال السنوات القليلة التي سبقت انتقال البنا إليها انقساماً وتنافساً في مرجعيتها الدينية والفقهية بين شيخين، فإما «طريقة الشيخ موسى» أو «طريقة الشيخ عبدالسميع»، ولذلك فضل البنا الابتعاد عن الجدل في هذه المسائل، وحاول أن يقيم حلقة له في أحد جنبات المسجد، لكن الأمر لم يرق للشيوخ الآخرين دخول هذا الشاب العشريني الغريب عليهم لإلقاء الخطب والمحاضرات، فاتفقوا على طرده من المسجد بعد أن احتد النقاش معه حول دعوته وأفكاره.
وبعد خروجه من المسجد، شق البنا طريقه الدعوي بالوعظ في المقاهي العامة التي يجتمع بها أهل المدينة من العمال والموظفين، وليس لهم في الخلافات المذهبية، فكان يخاطبهم بأسلوب سهل بعيدا عن التعقيد، ويناسب العامة وغير المتعلمين الذين يرتادون هذه المقاهي، إلى أن بدأ يستمع إليه عدد من الناس وأخذ في التعرف إليهم وإلقاء الدروس الدينية عليهم، وإقناعهم شيئاً فشيئاً بأمور الدعوة والإرشاد والدين الصحيح دون الخوض في أي تفاصيل فقهية ومسائل جدلية، وفي إحدى المرات فوجئ بأحدهم يطرح عليه سؤالا جدليا عن حكم التوسل، فشعر أنه سؤال متعمد لإحراجه أمام الحضور، فأجابه: «يا أخي إنني لست بعالم، ولكني رجل مدرس مدني، أحفظ بعض الآيات القرآنية وبعض الأحاديث النبوية الشريفة وبعض الأحكام الدينية، وأتطوَّع بتدريسها للناس فإذا خرجتَ بي عن هذا النطاق فقد أحرجتني، ومن قال لا أدري فقد أفتى، فإذا أعجبك ما أقول ورأيت فيه خيرا فاسمع مشكوراً، وإذا أردت التوسع في المعرفة فسَلْ غيري من العلماء الفضلاء المختصين؛ فهم يستطيعون إفتاءك في ما تريد، وأما أنا فهذا مبلغ علمي ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها»، وهو ما ساعده في كسب ثقة المستمعين لمحاضراته، خاصة الفئات محدودة التعليم وغير المتعمقة في الدين ومسائله الفقهية المتشعبة.
في 23 من مارس 1928، اجتمع البنا في منزله، بستة أشخاص من الذين تعرف عليهم في المقاهي العامة بالإسماعيلية وغالبيتهم من الحرفيين البسطاء، من بينهم نجار ومكوجي وجنايني وسباك، وجميعهم يعملون داخل المعسكرات البريطانية أو «الكمبات» كما وصفها في مذكراته (الدعوة والداعية)، وهم: حافظ عبدالحميد، وأحمد المصري، وفؤاد إبراهيم، وعبدالرحمن حسب الله، وإسماعيل عز، وزكي المغربي، ليبايعه هؤلاء الستة على العمل للإسلام والجهاد، معلنين أنفسهم جماعة الإخوان المسلمين، واستأجروا حينها حجرة في شارع فاروق لتكون أول مقر للجماعة تحت مسمى «مدرسة التهذيب للإخوان المسلمين» وتهدف لتأهيلهم في فنون الخطابة والدعوة والمحاضرات الدينية.
وقال البنا حينها إن هذه الجماعة سوف تحتاج إلى ثلاثة أجيال لتنفيذ خططه؛ فالجيل الأول هو جيل التكوين الذي يكتفي بالسمع دون اشتراط الطاعة في تلك المرحلة، والجيل الثاني يحارب وهو جيل التنفيذ وهنا تكون الطاعة التامة ملزمة وواجبة، أما الجيل الثالث فهو جيل الانتصار – على حد قوله -، مما يعزز ويؤكد أن مؤسس هذا التنظيم كان لديه رؤية وخطة واضحة حاضراً ومستقبلاً، ولكنها لم تكن واضحة المعالم لكل من اتبعوه منذ النشأة، فالمتابع لتاريخ جماعة الإخوان المسلمين منذ إعلان تأسيسها، يدرك تماماً أن طروحات البنا في خطبه ومنشوراته خلال سنواته الأولى كانت عبارة عن سلسلة من الأفكار والتوجهات الفضفاضة والعموميات التي استمرت عدة سنوات على طابع وعظي تربوي تهذيبي وأخلاقي، ولم يكن الشأن السياسي مطروحا خلال سنوات إقامته في الإسماعيلية، ثم تبلورت طروحاته لاحقاً بعد عودته إلى القاهرة وتحولت إلى عمل سياسي كشف حقيقة توجهه ونواياه السياسية التي تروم الوصول إلى السلطة.
لقاء البارون دي بنوا
سعى البنا وأتباعه لجمع التبرعات إبان إقامته في الإسماعيلية لإنشاء مسجد يحتوي على مقر للجماعة، وبحسب ما جاء في مذكراته، لم تكن النقود التي جمعوها كافية لإكمال المشروع، وصدف حينها أن مر البارون دي بنوا، مدير شركة قناة السويس العملاقة وكان يرافقه سكرتيره «مسيو بلوم»، أمام المبنى المذكور، وطلب معلومات موجزة عنه وعن القائمين على المشروع، ثم أرسل أحد موظفي الشركة إلى البنا في مقر عمله بالمدرسة الأميرية ليدعوه لمقابلة البارون في مكتبه.
وسرد البنا تلك الواقعة في مذكراته، قائلاً: «ذهبت إلى البارون دي بنوا فتحدث إلي عن طريق مترجم بأنه رأى البناء، وهو يود أن يساعدنا بتبرع مالي، وهو لهذا يطلب منا رسماً ومذكرة للمشروع، فشكرت له ذلك وانصرفت، ووافيته بعد ذلك بما طلب، ومضى على ذلك شهور كدنا ننسى فيها البارون ووعده، ولكني فوجئت بعد ذلك بدعوة ثانية منه إلى مكتبه، فذهبت إليه فرحب بي، ثم ذكر لي أن الشركة اعتمدت مبلغ 500 جنيه مصري للمشروع، فشكرت له ذلك، وأفهمته أن هذا المبلغ قليل جدا، ولم يكن منتظراً من الشركة تقديره؛ لأنها في الوقت الذي تبني فيه على نفقتها كنيسة نموذجية تكلفها نصف مليون جنيه، تعطي المسجد خمسمائة فقط، فاقتنع بوجهة نظري، وأظهر مشاركتي فيها، ولكنه أسف لأن هذا هو القرار، ورجاني قبول المبلغ على أنه إذا استطاع أن يفعل بعد ذلك شيئا فلن يتأخر. وشكرت له مرة ثانية، وقلت إن تسلم المبلغ ليس من اختصاصي، ولكنه من اختصاص أمين الصندوق، الشيخ محمد حسين الزملوط، الذي تبرع وحده بمثل ما تبرعت به الشركة، وسأخبره ليحضر لتسلمه، وقد كان. وتسلم أمين الصندوق المبلغ».
هذا ما حدث ولا شك أن الهبة الإنجليزية التي تلقاها البنا كانت ضخمة جداً بمعايير ذلك الزمان، بل وأثارت حفيظة سكان الإسماعيلية الذين تساءلوا حينها وهم مستنكرون لفعلته بشدة «كيف نؤدي شعائر الصلاة في مسجد تبرع الخواجات الأجانب لبنائه؟»، فرد البنا عليهم بمنطقه: «هذا مالنا لا مال الخواجات والقناة قناتنا والبحر بحرنا والأرض أرضنا»، ولم ترق إجابة البنا للسكان المحليين حينها، وكثر الهرج والمرج بين السكان لأنهم يدركون بأن الإنجليز لن يقدموا تلك الأموال بلا مقابل، لذلك ظل البنا يواجه الكثير من الاتهامات إلى أن امتص غضبهم لاحقاً بتأكيده أن تبرعات أهل البلد كانت كافية لإكمال بناء المسجد، وأن المال الإنجليزي سيذهب إلى دار الإخوان المسلمين تحديداً، وكان هذا المال الإنجليزي السخي هو حجر الأساس في تأسيس «معهد حراء الإسلامي» ومدرسة «أمهات المؤمنين» وعدد من شعب وفروع الجماعة في المناطق المجاورة للإسماعيلية، في شبراخيت والمحمودية وأبو صوير وبورسعيد والبحر الصغير والسويس والبلاح.
وقد حاول البنا في مذكراته «الدعوة والداعية» عدم تهويل حجم المبلغ الذي تلقاه وذلك بإشارته إلى أن المبلغ كان قليلا جداً وأن الإنجليز يدفعون نصف مليون جنيه لبناء كنيسة، وهذا الأمر مستحيل بمقاييس ذلك الزمن، وقد سبق أن تطرق في هذا الشأن الكاتب ثروت الخرباوي، الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية، في مقال سابق نشر في 2012، حيث قارن المبلغ الذي تلقاه البنا بمقاييس هذا الزمن، موضحاً بأن مبلغ 500 جنيه مصري في ذلك الوقت يعادل ما قيمته وقتها 505 جنيهات من الذهب، وهو يساوي مليونا ونصف تقريبا بمعايير هذا الزمن، وبما أن هذا القياس تم في 2012 أي سبق تعويم العملة العام الماضي، فمبلغ الهبة الإنجليزية التي تلقاها البنا يوازي قرابة ثلاثة ملايين جنيه بمعيار اليوم.
لهذه الأسباب الموضوعية، كانت الشكوك تساور سكان الإسماعيلية عن حقيقة الداعية حسن البنا والغرض من دعوته، بالإضافة إلى مسألة محدودية حصيلته الثقافية والدينية التي لم تكن متعمقة في الثقافة والعلم الديني، إذ كان جل تركيزه على فنون الخطابة والتواصل مع الجمهور فقط، كما أثار ابتعاده عن نشاط تأليف الكتب الدينية والفكرية تساؤلات الكثيرين ممن تابعوا نشاطه الوعظي، وعندما سألوه مباشرة: «لماذا لا تؤلف الكتب؟!»، أجاب البنا عليهم بأن مهمته هي تأليف الرجال والقذف بهم في البلاد لإحيائها، فالرجل منهم كتاب حي ينتقل إلى الناس، ويقتحم عليهم عقولهم وقلوبهم، ويبثهم كل ما في قلبه ونفسه وعقله، ويؤلف منهم رجالا كما ألف هو من قبل.
وبالرغم من تنامي الشكوك والاتهامات حول حقيقة نوايا الجماعة وطبيعة أهدافها، بالإضافة إلى تزايد الإشاعات التي شككت في البنا وما يصبو إليه، إلا أن القاعدة الجماهيرية للجماعة كانت تتعاظم وظل الكثير من الأتباع على عهدهم وبيعتهم للمرشد والجماعة لأسباب متعلقة بتأصيل منهج الطاعة العمياء ومحدودية الفكر والمعرفة لدى الشريحة الكبرى منهم، إذ كان غالبية الذين شاركوه في بناء النواة الأولى للتنظيم هم من الطبقات الدنيا القابعة في القاع الاجتماعي والاقتصادي، لتكشف لنا عن طبيعة الأساس الذي نشأت عليه الجماعة في الإسماعيلية.
هذه الحقائق عن مرحلة إقامة البنا في الإسماعيلية في الفترة ما بين 1927 – 1933، تعطي دلالات منطقية على مصداقية الاتهامات التي وجهها لاحقاً أحمد السكري لحسن البنا بعد أكثر من 13 عاماً من واقعة تلقيه الهبات السخية من المستعمرين الأجانب في الإسماعيلية، وعن طبيعة علاقته بالإنجليز والاستخبارات الأجنبية، الذين دأب البنا على معاداتهم في العلن ومصافحتهم في السر، ولندرك مجدداً أن الحقيقة تكتشف بالعودة إلى الجذور فالنهايات لا بد أنها موصولة بالبدايات.
أسباب الدعم الإنجليزي للجماعة
السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا يدعم الإنجليز وأجهزتهم الاستخباراتية حسن البنا وجماعته الناشئة آنذاك؟! والوصول لإجابة شافية تفرض علينا أن ندرس الظروف والملابسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مصر خلال تلك الحقبة وما سبقها وما تلاها، ونسعى لتحليل وتفسير الأسباب والدوافع، والأهداف التي ستصل إليها من دعم جماعة الإخوان
كما علينا أن نضع في الاعتبار أن دول الاستعمار لن تدعم أي حركات إسلامية في العالم العربي والإسلامي بهدف تحقيق مصالح إيجابية لهذه الدول، بالتأكيد أنها تسعى حتماً لتحقيق مصالح تخصها فقط أو منافع متبادلة مؤقتة على أقل تقدير، أما الجماعات التي تتلقى مثل هذا الدعم أو بالأصح «الرشاوى»، فهي تبحث عن تحقيق مصالحها في الوصول إلى السلطة وفقاً لمبدأ ميكافيلي الشهير «الغاية تبرر الوسيلة»، ولكنها حتماً ستقع تحت سيطرة هذه الأجهزة الاستخباراتية ذات الإمكانات الهائلة والقدرات الكافية للتحكم والتلاعب بهذه الجماعات على طريقة «العصا والجزرة».
الكثير من المراجع، فسرت وحللت أسباب الدعم الإنجليزي لجماعة الإخوان وحسن البنا، وفقاً لأحداث تلك المرحلة، فانصبت الكثير من الآراء حول أن الاستعمار البريطاني وحلفاءه كانوا يهدفون إلى دعم تيار شعبي يناهض حزب الوفد، الذي كان يتمتع بشعبية طاغية آنذاك، وتوظيف الإخوان كورقة ضغط على سلطة القصر حتى يفرض الإنجليز استمرار بقائهم في مصر وعدم إجلاء قواتهم لأطول فترة ممكنة، وبالتالي تعطيل مشروع استقلال مصر بشكل تام، وهذا التحليل صحيح، وكانت إحدى ثمرات العلاقة بين البنا والإنجليز، على سبيل المثال وليس الحصر، هي مساعيه لتهدئة الشارع المصري بعد اندلاع مظاهرات عام 1946 بسبب مشروع معاهدة «صدقي – بيفين» التي لم تحقق المطالب الشعبية بالاستقلال التام عن بريطانيا، بالإضافة إلى عدم قبول السياسات القمعية التي انتهجتها حكومة إسماعيل صدقي الذي مال مع مطالب الإنجليز ضد مطالب الشعب، ونكاية في حزب الوفد الذي خرج مع المواطنين للمطالب ذاتها.
لكن يجب أن لا نغفل أن قوى الاستعمار العالمي بشكل عام وبريطانيا العظمى على وجه الخصوص، تتميز ببعد نظر وتحليل وتخطيط إستراتيجي أبعد من التركيز على خطط قصيرة المدى وإدارة ملفات الأزمات السياسية بمعالجات سريعة، وفقاً لأحداث آنية وحقبة زمنية محدودة، فهي دائماً ما تخطط بإستراتيجية ذات سياسات بعيدة المدى. كما أن الإنجليز في سياساتهم الخارجية، دائماً ما يقومون بدعم جماعات المعارضة الدينية داخل الدول التي تجمعها بها مصالح اقتصادية، وعلى سبيل المثال وليس الحصر، ما فعله الإنجليز في إيران عام 1953 للتخلص من حكومة محمد مصدق التي قامت بتأميم صناعة النفط فألحقت الضرر بالشركات الإنجليزية، فأخرجت بريطانيا حينها ورقة الضغط التي دعمتها داخل إيران على مدى سنوات، وهو آية الله كاشاني زعيم حركة أنصار الإسلام الأصولية والمسلحة أيضاً، مما أحدث القلاقل إلى أن تم الانقلاب عسكرياً على الرئيس مصدق في غضون أشهر قليلة من الأزمة، ولو عدنا إلى تاريخ جماعة آية الله سيد كاشاني لوجدنا أن علاقتهم بالإنجليز لها جذور قديمة كما في حالة حسن البنا وجماعته وغيرهم.
حتى ندرك الحقيقة، كل ما علينا هو قراءة وتحليل المشهد من منظور أبعد وعلى مساحة زمنية أطول، حينها سنجد أن سبب الدعم البريطاني لحسن البنا وزمرته يهدف إلى خلق بيئة صراعات داخلية ممتدة ولا منتصر فيها بين القوى المتضادة (المعارضة والأحزاب المنافسة والسلطة)، وبالتالي اهتمت بريطانيا بتوظيف أيديولوجية هذه الجماعة التي ستمتد أفكارها ذات البعد العقائدي لسنوات طويلة حتى تظل مستمرة في عرقلة المجتمع وتعطيل حركة التنمية وتكبيل السلطات، وحتى تستطيع القوى الاستعمارية أن تفرض وتبسط هيمنتها على مصر والإبقاء على شراكاتها ومصالحها الاقتصادية، وهذا هو الواقع إذا تتبعنا تاريخ مصر وتسلسل الأحداث، سنجد أنها كانت تعيش حالة من التطور والنهضة التنموية التي بدأت تنبثق منذ عهد محمد علي باشا في القرن الـ19، والذي اهتم بإعداد بنية قوية للتعليم ساهمت في تعاظم نهضتها تدريجيا خلال العقود اللاحقة
ففي عهد محمد علي شيدت عشرات المدارس والكليات، وفتح المجال لابتعاث النوابغ إلى فرنسا وإيطاليا وإنجلترا، بالإضافة إلى الإصلاح الزراعي ومشاريع البنى التحتية، وتوالت النجاحات الاقتصادية من بعده وبدأت مصر تقطف الثمار وتعيش أجواء حضارية لفتت انتباه العالم، ففي العام 1862 أرسلت اليابان بعثة استكشافية إلى مصر للوقوف على أسباب نهضتها لتستفيد منها، ونقلت الصحف حينها أن أعضاء البعثة أصيبوا بالدهشة وهم يشاهدون في مصر قطاراً وسككاً حديدية في الوقت الذي لم تكن فيه اليابان عرفت القطارات.
لقد كان عامل الاهتمام بالتعليم جوهرياً في إحداث نقلة متتابعة على صعيد الوعي الاجتماعي في مصر، ونتج عنها تنام في الحراك الثقافي والفكري والإعلامي، ففي العام 1898 كانت تصدر في مصر قرابة 170 صحيفة ومجلة وارتفعت تدريجياً حتى بلغ عدد الصحف والمجلات في العام 1913 إلى أكثر من 280، وكانت تعبر عن آراء ثقافية واجتماعية وسياسية ذات قيمة فكرية، ومع هذا الكم الهائل من الصحف تطورت التيارات الفكرية والسياسية وحتى التيارات الدينية، وتحديداً السلفية التي شهدت تطوراً في عهد الشيخ محمد عبده من حيث الاعتدال الفكري والاهتمام باقتباس التطور العلمي في أوروبا
هذا التطور الفكري مهد الطريق نحو تكوين الأحزاب السياسية التي بدأت عملياً عام 1907، وتوسعت في التعددية الحزبية خلال الحرب العالمية الأولى، لتشمل أحزابا يمينية ويسارية ووسطا، وتطور معها حراك وطني ينادي ويطالب بالاستقلال، ومن هنا كانت القوى العالمية وخاصة الإنجلو – فرنسية تراقب هذا الحراك السريع وتسعى إلى التخطيط لكبح جماحه، لأنها تدرك أن الوعي الفكري سينهض بمصر كقوة جديدة في العالم وهو ما سيتعارض مع مصالحها، ولهذا كانت تتدخل في شأن التعليم وتعمل على تعطيل حركة إنشاء المدارس وفرض رسوم على التعليم والتدخل في المناهج بما يخدم أهداف المستعمر.
نهضة مصر المذهلة
وبالرغم من التدخلات الأجنبية، كانت مصر تعيش أزهى عصورها منذ عهد محمد علي باشا حتى نهاية الملكية (الفترة ما بين 1850 حتى 1950)، وحققت خلالها إنجازات عديدة، ففي يوليو 1913 افتتحت مصر أول محطة لتوليد الطاقة الشمسية المركزة في العالم بطاقة إنتاجية تصل إلى ستة آلاف جالون من المياه في الدقيقة الواحدة، وأصبحت بورصة «مينا البصل» في الإسكندرية هي الأولى عالمياً في إنتاج القطن، وبورصتا الإسكندرية والقاهرة في المركز الرابع عالمياً، وكانت الإذاعات العالمية تردد في نشراتها الإخبارية عبارة شهيرة آنذاك وهي «مصر تنتج والعالم يستهلك».
في الفترة ما بين 1885 إلى 1914 كانت قيمة الجنيه المصري تعادل جنيه ذهب، وفي العام 1925 فازت مدينة القاهرة بلقب أجمل وأرقى مدينة في العالم، ومنذ عام 1926 وحتى نهاية الأربعينات الميلادية كانت مصر تمتلك أكبر غطاء نقدي في العالم، وخلال الحرب العالمية الأولى أقرضت مصر بريطانيا ما قيمته بمقاييس اليوم أكثر من 30 مليار دولار أمريكي ولم تستردها، وفي عام 1946 قدمت أمريكا إلى مصر طلباً بمنح معونة مالية إلى اليونان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية على أن تُرد لاحقاً، كما أقرضت بلجيكا، بعد الحرب العالمية الأولى 500 ألف فرنك فرنسي لإنقاذ الشعب البلجيكي من الفقر.
ربما لن يصدق البعض أن صحيفة الأهرام نشرت عام 1950 خبراً مفاده أن دولة أوغندا طلبت من الملك فاروق الانضمام إلى مصر حتى ترعاها، ولكنها الحقيقة التي سعت جماعة الإخوان لإنكارها واعتبارها عهراً غربياً جلبه الاستعمار ليقضي على الإسلام بعد سقوط دولة الخلافة العثمانية، هكذا كانت رؤيتهم في العلن، في حين كانوا يعملون لمصلحة الاستعمار في الخفاء الذي لم يعد خفيا. وعلينا أن ندرك بأن التطور التنموي الذي عاشته مصر خلال العهد الملكي كان أحد العوامل التي جذبت أطماع الغرب، وكان دافعاً لسلسلة من المؤامرات التي كانت تديرها قوى الاستعمار في الخفاء لتحقيق مصالحها، وكانت جماعة الإخوان إحدى هذه الأدوات التي وظفها المستعمر لإحداث الخلخلة الداخلية المطلوبة لإضعاف مصر.
انكشف القناع السياسي
كانت الجماعة تدعي أن لا علاقة لها بالسياسة، وأن هدفها الرئيسي هو الدعوة والإرشاد فقط، وكانت تحظر على نفسها العمل السياسي بموجب المادة (2) من قانونها، وبذلك استطاع حسن البنا أن يتحايل على القانون والسلطات للحصول على ترخيص بمزاولة الجماعة لنشاطها الديني، ولكن في العام 1935 ألغى البنا هذه المادة، وكان الهدف هو الانتقال للمرحلة التالية التي خطط لها منذ سنوات، ولكنه استمر في إنكار وجود أي نوايا سياسية للجماعة، هكذا خدعت الجماعة وقائدها الفذ المصريين بشعاراتهم الدينية الزائفة
وما إن تنامت قوة الجماعة تنظيمياً واتسع نفوذها الجماهيري فإذا بالبنا يكشف النقاب في المؤتمر الخامس لقادة الإخوان 1938 عن حقيقة أهدافه السياسية، وخرج حينها عن طمأنته المعهودة للأحزاب والحكومة المصرية بأن الجماعة ليست طرفا سياسيا وأنها مجرد طرف ناصح أو واعظ، معلناً التحول للنشاط السياسي ومعاداة الأحزاب الأخرى فهي في نظر الجماعة بدعة استعمارية ضالة، وبالتالي قال إنه حان الوقت للتحول من «دعوة الكلام وحده إلى دعوة الكلام المصحوب بالنضال والأعمال، وأن الجماعة ستخاصم جميع الزعماء والأحزاب، سواء أكانوا في الحكم أم خارجه، خصومة لا سلم فيها ولا هوادة معها، إن لم يعملوا على نصرة الإسلام واستعادة حكمه ومجده»
وحينها أيضاً طرح البنا الترسيمة الإخوانية الشهيرة «الإسلام دين ودولة… ومصحف وسيف… لا ينفك واحد من هذين عن الآخر» (الإخوان المسلمون: قراءة في الملفات السرية، ص 276)، ومن بعدها كشفت لنا الوقائع والأحداث المتعاقبة الكثير من الأسرار المفزعة، ومن بينها حقيقة التنظيم السري للجماعة وسلسلة الاغتيالات التي نفذتها ضد سلطة القصر الملكي والقضاء بسلسلة اغتيالات شهيرة، كحادثة اغتيال رئيس الوزراء أحمد ماهر في 1945، والقاضي أحمد الخازندار ورئيس الوزراء محمود النقراشي في العام 1948، لينكشف غدر الجماعة للملك فاروق والحكومة المصرية بعد أن كانت تداهنهم في العلن بخطابات الرياء والكذب.
ميدل ايست أونلاين