إسماعيل الأمين باحثاً عن «الأمّة اللبنانية»
قد يكون متأخراً السؤال اليوم ـــ أي بعد قرن تقريباً على إعلان «لبنان الكبير» ــ إن كان هذا الوطن وطناً نهائياً وإن كان شعبه أمةً بذاتها أو أنه ليس إلا جزءاً من أمة أوسع قد تكون إسلامية أو عربية أو سورية أو غيرها. لكن السؤال المتأخر في توقيته ليس متأخراً في أهميته، فما الجدوى من هذا السؤال وهذا السجال ما دام الخلاف لا يزال قائماً بين مختلف الشرائح حول ركائز ما يسمى الهوية الجامعة؟ ثم هل يصح تجاوز التحقق من نهائية الوطن أو عدمه أو من حقيقته التاريخية وصلته بمحيطه ما دام الإجماع لم يتم علي أي من هذه المسائل؟ لهذه الأسباب ربما، انطلق إسماعيل الأمين باحثاً في فكرة «الأمة اللبنانية» وموقعها في المعالم الفكرية الغربية والعربية، وناقداً لبعض تجلياتها في فكر عرابيها في كتابه «الأمّة اللبنانية: من المصالح الأجنبية إلى الوقائع المحلية» (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر).
يمكن قراءة كل فصل من فصول الكتاب الأحد عشر بشكل مستقل، ذلك أن الفصول أشبه بمقالات متفرقة لا يجمعها إلا وحدة الغاية وهو البحث عن الأمة اللبنانية.
كل فصل عني بعرض ومناقشة موقع الأمة اللبنانية وطبيعتها، ماهيتها وتاريخها، حضورها أو غيابها في طروحات رجال فكر انتقاهم الأكاديمي اللبناني من دون أن يبين لنا سبب اختيار أفكارهم للعرض والمناقشة دون سواهم. يبدأ الكتاب بفصل «الأمة ولادة طبيعية أم لقاح جراحي؟ الأمة اللبنانية في الفكر الغربي». العنوان يتسم بالغرابة، وخاصةً أن الكاتب يعترف في الفقرة الأولى بأن موضوع الأمة اللبنانية لا يتطلب العودة إلى الفكر الغربي وأن «كتّاب الغرب لم يكن ببالهم ما يتعلق بمثل هذه الأمة». لكن يمكن تبرير الأمر بأن الكاتب أراد استهلال كتابه بما يشبه المقدمة النظرية التي تسهم في تحديد مفهوم الأمة وحيثيات نشوئها وتكونها وفق بعض منظريها ودعاتها الغربيين. لذلك، يتوقف الكاتب عند المفكر الفرنسي إرنست رينان ومحاضراته الثلاث في جامعة «السوربون» بعنوان: «أمة… ما هي؟» وعند فهمه للأمة بوصفها ظاهرة غربية جديدة في التاريخ تتحقق حيناً بإرادة سلالة حاكمة أو بإرادة الأقاليم، وحيناً آخر بسيطرة روحية عامة على صيرورة الأمة عبر وقائع تاريخية عظيمة. يتوقف الكاتب بشكل سريع عند المفكر والفيلسوف الألماني يوهان غوتليب فيخته وخطاباته الداعية إلى إحياء أمجاد الأمة الألمانية من خلال الإصلاح التربوي والأخلاقي، وعند واحدٍ من ملقّحي الأمة الإيطالية هو الكاتب والمحارب الإيطالي جيوزبي غاريبالدي. وإن اعتبرنا الفصل الأول مقدمة نظرية للكتاب، فإن الفصل التاسع كان يمكن أن يكون كذلك لولا أن الكاتب أخّره. فالمقاربة الأنثروبولوجية التي استعرضها في هذا الفصل وعرض معالجاتها لمواضيع كالعرقية والثقافة والعنصر والقومية، كان يمكن أن تكون ذات قيمة أكبر لو استعرضت في مقدمة الكتاب.
تعرض الفصول الأخرى تمثلات الأمة في: الفكر الإسلامي كما عند الأزهري علي عبد الرزاق، والباحثين الأميركيين صاموئيل هانتنغتون وفرانسيس فوكوياما (لكن ما شأنهما بالفكر الإسلامي؟!)، وفي كتابات القومي العربي ميشال عفلق الذي انتهى به المطاف، بحسب الكاتب، إلى اختزال الأمة العربية ببعض الأحياء الغنية في دمشق حيث نادي الضباط، وعند المفكر القومي السوري أنطون سعادة الذي وإن كان قد استبعد إمكانية تحقق الأمة اللبنانية رغم إعجابه الشديد بالحضارة الفينيقية، إلا أنه عاد واعتبر «الأمة السورية حلاً وسطاً بين اتجاهين، عربي وفينيقي». كذلك عند المفكرين اللبنانيين من الرواد المنظرين للأمة اللبنانية أمثال شارل مالك وكمال الحاج وميشال شيحا وجواد بولس، وأتباعهم من الجيل الثاني أمثال ناصيف نصار وأنطوان مسرّة وبسام الهاشم، الذين جربوا بحسب الكاتب، إضفاء صبغة خاصة مُفترية على الأمة اللبنانية، أو بالأحرى على الأمة الكسروانية، بدءاً من اللغة والطبيعة والمناخ والتنوع الثقافي وحتى فرادة النظام اللبناني وطائفيته! ويستنتج الكاتب أن دافعهم هو سعيهم بوصفهم موارنة إلى تمييز لبنان عن محيطه العربي والإسلامي، وتثبيت هيمنة سلطة الموارنة وتأبيدها على لبنان. يعرّج الكاتب على طروحات المؤرخ كمال صليبي، حيث واجه ــ بالاستعانة باستنتاجاته ــ دعوى تعظيم الإمارتين الشهابية والمعنية والحديث المكرور عن التنوع الثقافي اللبناني، كما عرج على هواجس الروائي أمين معلوف التي عبر عنها في «الهويات القاتلة» وفي كتب أخرى.
ما أصاب الأمة اللبنانية في مقتل باعتقاد اسماعيل الأمين، هو ممارسات بعض المسيحيين الموارنة باختزالهم الأمة اللبنانية بجبل لبنان وضم الأقضية الأربعة إليه، إضافة إلى ممارساتهم السياسية منذ الاستقلال حتى اليوم، حيث استخدموا هواجسهم كمطية لتثبيت هيمنتهم وتبريرها. في المقابل ــ ودائماً بحسب الكاتب ــ انتهج المسلمون (لم يفرد لهم الكاتب إلا فصلاً واحداً من كتابه) خياراً آخر، حيث دعوا إلى اتخاذ لبنان وطناً نهائياً لجميع طوائفه، ولم «تبعد هذه الدعوات عن الدعوة إلى الأمة اللبنانية سوى خطوة إلغاء الطائفية». لكن بكل الأحوال، هل هناك أمل اليوم في ولادة أمة لبنانية؟ يجيب الكاتب: لماذا أمة لبنانية؟ لماذا لا نقول الأمة الفينيقية؟ فما دمنا أبناء هذه الحضارة العريقة التي كانت صيدا وصور أعظم مدنها، وما دام الأصل مشتركاً وهو الأصل الفينيقي واللغة مشتركة هي العربية التي انتشرت قبل الفتح الإسلامي، وما دام الإسلام كما المسيحية لم ينتشرا بحد السيف في لبنان، وإنما من خلال ثورات فكرية… هذا كله بالإضافة إلى أن الأصيل في لبنان ليس جبل لبنان الذي كان يسكنه الشيعة قبل نزوح المسيحيين إليه، وإنما مدن فينيقيا… إذاً «نعم للأمة الفينيقية ولا للجمهورية اللبنانية» يعلن الكاتب. وفي سبيل تحقيق هذا المطلب، يقترح الأمين بعض الإجراءات اللازمة لولادة هذه الأمة؛ منها: إلغاء الجمهورية اللبنانية وإعلان الدولة الفينيقية، إعلان دستور جديد، تشكيل مجلس أعيان يمثل الطوائف، انتخاب الرئيس من الشعب وإلغاء طائفية الوظائف.
إن كان الفرنسي رينان قد خلص إلى أن الأمة هي النفس والمبدأ الروحي، حيث إن الأولى هي ميراث الذكريات والثانية هي الرغبة في العيش المشترك وإعلاء شأن الموروث، وأنها «حصيلة ماضٍ طويلٍ من الجهود والتضحيات والتفاني والإخلاص وتكريس الذات»، فالسؤال هنا عما إذا كان المبدأ الروحي والنفس اللذان يشترط بهما تحقيق الأمة يمكن أن يتحققا في نفوس اللبنانيين بفعل بعض الترتيبات السياسية، أم أن علينا انتظار حرب توحيد تكون مخاضاً لولادة أمة لم نتفق على اسمها بعد؟
صحيفة الأخبار اللبنانية