تبديد للأموال واستهتار بالعقول
المهرجانات في العالم العربي تشبه تلك الأكلات الشعبية التي يرمى فيها كل أنواع الخضار والتوابل والبقول والحبوب دون مراعاة لا لذائقة أو صحة أو نكهة أو تفرّد.. المهم هو الوفرة والتسويق، تسويق أي شيء دون تخطيط أو دراسة أو احترام للسوية الفنية والخصوصية المجتمعية.
غالبية من المهرجانات العربية تشبه الولائم التي تملأ بطون المعزومين الذين يكيلون عبارات المديح والإطناب لمن أولم لهم على أمل العودة في الوليمة القادمة التي سيتبادل أصحابها المصالح والصفقات في زحمة الصراخ الاحتفالي.
ليت العرب أبقوا على تقاليدهم الاحتفالية المعروفة في تاريخهم القديم مثل سوق عكاظ والمربد، وذلك بالتخصيص وعدم الخلط بين قرض الشعر وبيع الشعير والتمور إلى جانب عقد الصفقات والعهود، لكن الأصل ظل ثابتا، واضحا ومعروفا: أنت هنا في مهرجان شعر وتباع على هامشه بضائع كثيرة وليس العكس.
المنطق أن تقيم مهرجانا للزهور مثلا، في بلد تكثر فيه الزهور وقس على ذلك في شتى أنواع الفنون، وهو ما لا نجده في بلاد عربية كثيرة، فهل أصبحت غاية إقامة المهرجانات هي إقامة المهرجانات، يا لها من سوريالية عربية في عصر التخمة الاحتفالية والشح الثقافي حتى صار الواحد يسأل الآخر: في أي مهرجان ستقضي شهر إجازتك؟
ومن المفارقات الغريبة، وخصوصا في البلدان العربية الفقيرة، أنه وفي الوقت الذي تشكو الدولة من الأزمة الاقتصادية الخانقة وتدعو إلى سياسة التقشف وترشيد النفقات، نجدها تدعم المهرجانات بسخاء في كل مدينة وتسهر عليها وترعاها وتروج لها إعلاميا وثقافيا، وتغدق الأموال وتوفر الدعم المادي والمعنوي وكذلك الوسائل والإمكانيات للجمعيات التي تصنعها وتضع المؤسسات والفضاءات العمومية رهن إشارتها من أجل إنجاحها رغم أنف المواطن.
أموال طائلة تصرف على الدعم المادي المخصص لإقامة المهرجانات وتنظيمها والإشراف عليها وأجرة الفنانين والفنانات وكل ما يرتبط بها، تستفيد منها فئات خاصة وضيقة، وحتى في حالة سلمنا بالنزاهة الإدارية وغياب الفساد فستستفيد من هذه الأموال فرق ومغنون ومهرجون ومنافقون من خارج البلاد، ويعاني أبناء الشعب من البطالة والفقر والحرمان في الوقت الذي تكون فيه البلاد أحوج ما تكون إلى ترشيد النفقات وتعزيز مسار التنمية، ودعم العلم والعلماء والبحث العلمي، والرفع من المستوى الاجتماعي والاقتصادي للفرد والمجتمع.
المتأمل في الميزانيات المرصودة للمهرجانات الصيفية ذات الطابع الترفيهي في بلد مثل تونس على سبيل المثال لا الحصر، يصاب بالذهول حين يقارن بين رواتب الموظفين المحليين وقدراتهم الشرائية الضعيفة وتدهور المستوى المعيشي وبين الأجور الخيالية التي يتقاضاها باسم الفن والإبداع قادمون من خارج البلاد بالعملات الأجنبية.
استسهال البعض في تنظيم المهرجانات، قاد إلى هذا التكاثر وهذه التخمة دون ضابط ولا استراتيجية واضحة قادرة على بلوغ الهدف في ترسيخ ثقافة الاختلاف والإقبال على الآخر، كذلك فإن الأمر لا يخلو من نوايا وسياسات تنويمية في بعض البلدان. ولعل سياسة النظام القطري في هذا المجال خير دليل على ذلك، فهو وعلى عكس بلدان خليجية مجاورة تضع استراتيجيات تنموية مدروسة لصالح شعوبها، يحاول النظام القطري أن يغطي على ارتباطاته المشبوهة والتشويش على سياسته بمحاولة “صناعة الحدث” عبر الإكثار من غوغاء التجمعات والإغداق عليها في طريقة تشبه الرشوة أو الرشوة عينها.
وإذا كان بعض السياسيين يعتقدون أن إقامة المهرجانات بهذه الطرق العشوائية والكرنفالية، تخدم قضايا لشباب والتنمية وتنتشله من الوقوع بين أنياب التطرف، فهي مخطئة بلا شك، ذلك أن المشاريع الفنية والثقافية يجب أن تخضع لاستراتيجيات مدروسة وهي ليست مجرد تجميع لعروض فرجوية وخلق هيستيريا جماعية من شأنها أن تعمق الإحساس بالاغتراب وتزيد من الانفصام النفسي حين يجد الشباب نفسه ممزقا ومشتتا بين هالة احتفالية مبهرة وواقع معيشي بائس.
وأمام هذا الكم الهائل من المهرجانات التي تبدو في غالبيتها جوفاء (إلا ما خطط لها بعناية )، لا تقلد مهرجانات الغرب إلا في الشكليات والبروتوكولات، أما كان الأجدر أن توجه ميزانياتها في اتجاه صناعة أعمال إبداعية أنفع وأبقى وأكثر تأثيرا في صناعة تقاليد إبداعية بدل الاكتفاء بالاحتفاء بإبداعات الآخرين مثل مجرد منظمي حفلات.
نقطة أخرى ينبغى الإشارة إليها، وهي أن الزائر للمهرجانات العربية المتخصصة، يلحظ بهرجا ولقاءات وصورا وزحمة في ممرات الفندق الذي تقيم فيه الوفود المشاركة، وحين يدخل القاعات المخصصة للندوات الصباحية، يجدها خالية على عروشها، فارغة إلا من صاحب المداخلة ومنظم النقاش.