الآلات الذكيّة… هل تَحكمنا ذات يَوم؟
الذكاء الاصطناعيّ: مفهومٌ مُعقّدٌ في أساسه ومُلتبس، وبالتالي غير مفهوم تماماً… ذلك أنّه من الغرابة بمكان أن يتحدّث العِلم عن مفهوم الذكاء الاصطناعيّ، في حين أنّ التعريف الأوّلي البسيط لملكة الذكاء أساساً ما انفكّ حائراً ومُحيِّراً وغير واضح في نصوص الباحثين وعلى ألسنة المفكّرين.
لكن، وقبل إطلاق الأحكام، لنضع العربة وراء الحصان أوّلاً.
“الذكاء الاصطناعي” هو مُصطلحٌ تعبيري ابتكره عالِم الحَوسبة الأميركي جون مكارثي (1927- 2011)، في العام 1956. والتعبير يرى إلى توصيف القدرات غير الاعتيادية التي تبديها الآلات المُبرمَجة، بما يُحاكي القدرات الذهنيّة للدماغ البشري، مثل التعلّم والاستنتاج وردّ الفعل.
الواقع أنّه مهما بالغنا باعتماد أساليب التبسيط والتسهيل والتيسير، فسوف لن ننجح كما ينبغي في نزع سِمات الدهشة والغرابة والإبهام عن هذا المفهوم الذي لا يني يتىسربل بالتباساته. فالذكاء أساساً لا يتحقّق خارج مجال التفكير، وهذا يستوجب توفّر الوعي من بابٍ أولى. وبغياب الوعي والتفكير يصبح وجود الذكاء مستحيلاً، وبالتالي يستحيل وصم أيّ آلة بالذكاء.
هذا من الناحية الرياضية البحتة. لكنْ، بالانتقال إلى نافذة أخرى يتغيّر المشهد. أنا مثلاً حصلتُ على أداةٍ للاستعمال الشخصي وأنا جالس أمام شاشة الكومبيوتر؛ إذ اشتريتها عبر الإنترنت: دخلتُ الموقع المطلوب على الشبكة العنكبوتية، سألتُ عن طلبي وخُضتُ نقاشاً جادّاً حول المواصفات والتعديلات والتكلفة وما إلى ذلك، وأخيراً حصلتُ على ما أردته من الأجوبة بصوتٍ نسائيّ شجي وواضح، وقمتُ بتسديد الثمن عبر بطاقتي المالية.
هذا كلّه حصل ويحصل مثله وأكثر في سياق الرفاهية التي بات يوفّرها لنا العصر والتقنيّات المُتاحة. والمُلاحظ أنّ صاحبة ذلك الصوت الشجي لم تكُن أكثر من… صوت؛ برنامج حاسوبي لسيّدة موجودة افتراضياً، من دون جسم ولا كيان. مجرّد “ذكاء اصطناعي”… نمطٌ من ذكاء الآلة.
الحادثة ليست فريدة، وهذا المستوى من الرفاهية بات متوفّراً منذ سنوات طويلة. فمعظم الآلات والأدوات في البيت ومقرّ العمل، في السيّارة والطائرة والقطار، في المقاهي والمطاعم والمنتزهات… باتت تتوافر كلّها بنماذج حديثة قابلة للبرمجة بحيث تُلبّي متطلّبات المُستخدِم تماماً، فضلاً عن “عجيبة” هاتف الجيب والإنترنت…
هذا كلّه من ثمار تطوير الآلة وتأهيلها لتقوم عن الإنسان بالمَهام التي كان ينبغي عليه القيام بها بنفسه، وقد أطلقوا عليه تعبيراً لا يقلّ إثارة عن “الذكاء الاصطناعي”، فأسموه: ذكاء الآلة. نعم، هذه الكتلة من المعدن والعظم والفحم والبلاستيك (وهي مواد جامدة وميّتة)، دسَّت فيها التقنيّات البشرية أنماطاً من القدرات الذكية أتاحت لها أن “تتصرّف” وتُنفِّذ المهام (التي جرت برمجتها مُسبقاً للقيام بها). الكلمة المفتاح هنا هي البرمجة. أنتَ تُربّي ابنك ليكون مهذّباً مثلاً… كأنّكَ تُبرمِج له سلوكه بحيث يتوافق مع مقوّمات التهذيب. ما يفعله التّقنيّ العالِم مع الآلة ليس بعيداً عن هذا: يُبرمجها كي تقوم بما يتطلّبه منها، يزرع فيها البرنامج التشغيلي الذي يُريد، ويوكل أمر التنفيذ والمتابعة الدقيقة لبرنامج آخر… “مُفكِّر إلكتروني” يعمل ويراقب ويتابع بلا تعب ولا خطأ.
إلى هنا تبدو الصفحة مُشرقة والتقانة المتقدّمة مثابة خادم أمين للإنسان. إلّا أنّ اليوم الجميل لا يدوم… والذكاء الاصطناعي ليس منذوراً على ما يبدو ليلتزم حدود الأمان البشري، بل إنّه حاول (ونجح) مراراً في التفوّق على أستاذه. صحيح أنّ برامج الترجمة الآلية مثلاً لم تصل إلى مستوى الجودة التي يقدّمها المُترجم البشريّ، إلّا أنّها ما برحت تتقدّم محقِّقة خطوات ثابتة إلى الأمام. وقد بشّرت دراسة جديدة أنّ الذكاء الاصطناعي سيكون قادراً على القيام بجميع المهام الخاصّة بالبشر في غضون 50 عاماً من اليوم، وسيتفوّق على الإنسان في ترجمة اللّغات وقيادة الشاحنات وحتّى تأليف الكُتب. ولا يخفى أنّه خلال العقدَين الماضيَين، حقَّق هذا الذكاء الاصطناعي في مجال ألعاب الفيديو، انقلاباً كبيراً وتقدّماً هائلاً من خلال الوصول إلى المزيد من الإثارة والتشويق، وتوفير خصم (برنامجيّ) أكثر ذكاء ممّا كان من قبل، مع قدرٍ أكبر من المحاكاة. ولم تلبث الآلة أن كرَّست تفوّقها على الذكاء البشري في لُعبة الشطرنج، بحيث لم تترك “بطلاً عالميّاً” في اللعبة إلّا وتحدّته وفازت عليه. لذا فليس من قبيل المُبالغة التخوّف من أن يُصبح الروبوت الحديث وكلّ آلة معزَّزة بالخوارزميّات الذكيّة، آلات أعلى ذكاءً من الإنسان، وربّما أيضاَ آلات واعية بمعنى ما، “تُدرك” ما يجري حولها، و”تتصرّف” بمقدار لا يُمكن ضبطه من الحرّية، ولاسيّما مع تواصل تطويرها وتعزيزها بقدرات ذكائيّة لا تقف عند حدّ.
لقد جاء تحقيق هذه الإنجازات ليشكِّل نقطة مشرقة في تاريخ الذكاء البشري وتطوّر التقانة وسحرها الجميل؛ إلّا أنّ هذا ليس سوى وجه واحد لقطعة العملة، ولا ينبغي تجاهل وجود وجهها الآخر الذي لا يُرى من هذه الجهة، والذي قد لا يكون كما تتمنّى.
فما هي الاحتمالات المُمكنة…؟
بعيداً عن الانزلاق إلى جاذبية التهويل وتضخيم الوقائع، فالقوى الهائلة التي تتمتّع بها الآلة في نماذجها الحديثة والذكية، جعلت منها جنساً جبّاراً من الوحوش الطاغية، إنّما المُسيطَر عليها من قبل صانعها ومُبرمِج أعمالها ومهامها… الإنسان. فإن خرجت عن طاعته لسببٍ ما، أو تعطّلت، أو جرى استخدامها لغايات شرّيرة، سواء للقضاء على الجيوش أو لتدمير القوى والاقتصادات أو الإنشاءات والحضارات وما إليها، عندها يصحّ القول إنّ الوحش الذكي يتمرّد على صانعه، ويكون في هذه الحالة مُجرّداً من كلّ إنسانية ومسؤولية وعاطفة، يتحدّى القوانين ويدوس على النُظم ولا تعيقه حواجز ولا تعقل حركته كوابح، ويصبح ذكاؤه لعنة قاتمة لا تُبقي ولا تَذَر، وتهديداً خطيراً ومُباشراً وحقيقياً لأنماط الحياة والإنشاءات والحضارات كلّها، وللبشرية برمّتها من باب أولى. وما وفّرته سينما الخيال العلمي من هذه الأنماط لا يعود مجرّد خيال.
فهل هذا الاحتمال وارد بالفعل؟
الواقع أنّ المَخاوف الجادة من “مغبّة سيطرة الآلات وتراجُع دَور الإنسان” ليست نوعاً من الترف الفكري. فهذا الشعور بات واسع الانتشار في الأوساط العلمية المختصّة والمُتابِعة. أحد أشهر المستثمرين في الغرب وأكبرهم، “إلمون موسك”، مؤسِّس شركة “تيسلا” لإنتاج السيّارات الكهربائية في الولايات المتّحدة الأميركية، أعلن أنّ ” الذكاء الاصطناعي هو أكبر تهديد يُواجِه وجودنا نحن البشر”، مُشبّهاً الآلات التي تفكّر بـ”الأسلحة النووية” وبـ “الشيطان”. وإذا كان الفيلسوف السويدي “نيك بوستروم” من جامعة “أوكسفورد” قد طمأننا إلى أنّ ” العِلم لن يتوصّل إلى ابتكار آلات بذكاء فائق يتفوّق على ذكاء الإنسان، قبل حُلول العام 2075″، فإنّ إبعاد الموعد في الزمان لا يعني نفي الخطر بل تأكيده. فعندما يتسنّى ابتكار أجهزة حاسوب تمتلك عقولاً مستقلّة خاصّة بها، تدخل البشرية عصر فقدان السيطرة على برمجيّات الذكاء الاصطناعي.
وعلى الرّغم من تفاؤل “مارك زوكربيرغ” مؤسِّس شركة “فيسبوك”، واعتباره أنّ ” الذكاء الاصطناعي سيحسّن من حياة الناس ويجعلها أكثر سهولة”، إلّا أنّ الإشارة تبدو ضرورية إلى واقع أنّ الشركة إيّاها اضطرّت مؤخّراً لإغلاق أحد أحدث برامجها للذكاء الاصطناعي، بعد أن طوّر ذلك البرنامج نفسه من تلقائه، ومن دون أمر ولا توجيه بشري، لغةً خاصّة للتواصل، غير الإنكليزية. ومن خلال هذه اللّغة عمل روبوتان في الشركة على التواصل مع بعضهما، وتوصّلا إلى اتّفاق لإنجاز مهمّة غير معروفة لم يستطع المبرمجون تحديدها، فعمدوا إلى إلغاء البرنامج من أساسه.
وهذا على خطورته، لم يكُن مُفاجئاً للمتخصّصين. فمعروف أنّ الذكاء الاصطناعي يتعلّم من البشر وقدراتهم، ويُمكنه أن يُطوِّر منظوماته الخاصّة خارج رأي البشر وإرادتهم أيضاً. وحين يتحقّق ذلك غداً أو بعده، تصبح سلامة الإنسان موضوع تفاوض مع الآلة.
وهذا يتّفق مع مَخاوف أحد أكبر علماء الفيزياء المُعاصرين، البريطاني “ستيفن هوكينغ” مؤسِّس ورئيس “مركز دراسة المخاطر المهدِّدة للبشرية” في كامبريدج. فهو أعلن عن تخوّفه ممّا سمّاه “يوم قيامة يثور فيه الذكاء الاصطناعي على البشر ويؤدّي إلى إبادتهم، وبأحسن الأحوال إلى استعبادهم”.
إلى هنا تتلبّد الآفاق بتساؤلات مختلفة: إن كان صحيحاً أنّ المصنوع يُمكن أن يصير أذكى من صانعه فيشكِّل خطراً، أليس الأصحّ القول إنّ الخطر يأتي من الإنسان أوّلاً وليس من الروبوتات والذكاء الاصطناعي؟
أعتقد أنّنا كبشر، نبني منطقنا (ومخاوفنا أيضاً) على فرضيّات نعتبرها نهائية، بينما يتبيّن لاحقاً أنّها كانت خاطئة. والأمثلة النموذجية كثيرة، من التفّاحة الشهيرة التي “لم” تسقط على رأس “نيوتن”، إلى الفئران التي “لا” تعشق الجبنة، وصولاً إلى النعامة التي “لا” تُخفي رأسها في الرمال. فهذه كلّها فرضيّات ثبت اليوم أنّها غير صحيحة.
فهلّا يُمكننا الاعتماد على ما لا نعرفه بعد، فنتحرّر من شحوب أفكارنا المُسبقة (ومخاوفنا الكامنة)، ونترك للآلة الذكيّة أن تدرس بذاتها… احتمالات خطورتها وكيفيّة السيطرة المُستديمة عليها؟
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)