“لحوم فرانكشتاين ” أو المغامرة في المجهول
” نريد لحم بقر يرعى بجبال الألب، وله أجراس رنانة تزين رقابه” هذا ما قالته أغلبية شملها استبيان أجرته وكالة الأنباء النمساوية مؤخرا حول ما بات يعرف ب”لحوم من المختبر للطبق”، متمسكة باللحوم الحقيقية التي تعرفها وتعشقها في حين لم تبد إلاّ نسبة 28.51 بالمائة انفتاحها على التجربة.
هذه اللحوم المرعبة وهي تجثم على أطباقنا وقد تواصل نموها وتفاعلاتها في أمعائنا شبهها متابعون ومهتمون بوحش فرانكشتاين، بطل رواية المؤلفة البريطانية ماري شيلي، وهو الشاب العبقري الذي اخترع كائنا صناعيا وأراده أن يكون مخلوقا طبيعيا، وحين صار له ذلك، تحول الشيء الذي اخترعه إلى وحش وحول حياته وحياة من حوله إلى جحيم. نعم هذا ما يمكن انتظاره وتوقعه من أطباق المستقبل وهذه اللحوم التي تنذر ببئس المصير.. فلما هذا الجموح نحو مغامرة لا ندري عواقبها؟
ليس الأمر نزوعا نحو السلبية ولا معاداة للعلم الذي خدم وما زال يخدم البشرية، لكن الجانب الأخلاقي لا يمكن تغييبه باسم التقدم والبحث عن حلول لأزمات البشرية.. أليست أزمات اليوم هي نتيجة لحلول ابتدعها الإنسان في مواجهة أزمات الأمس كما كان يدعي؟
لندع الطبيعة تواصل عملها الانتخابي ولنترك الإنسان يتكيف مع أزماته بتلقائية دون هذا الزج بالفتوحات العلمية نحو ما لا يحمد عقباه. تخيلوا قطعانا من المواشي تتكاثر دون قصابين وشوائين وطقوس احتفالية في العالم الإسلامي.. تخيلوا شرائح لحم تباع في الصيدليات ومخابر تحل محل المسالخ وحيوانات تتخذ من لحومها علفا وحياة أخرى موازية للحياة الطبيعية. إنه بلا شك أمر مرعب، فإذا كانت الأبقار تتمشى آمنة في شوارع الهندوس فإن هذا بحكم عقيدتهم التي نحترمها في تحريم أكل لحوم الأبقار، لكن لا مبرر لمشهد كاريكاتيري شبيه بأبقار الهندوس للمواشي في مختلف بلدان العالم بعد إعفائها من الذبح في حال تفشي اللحوم المستنسخة.
أما من الناحية الطبية والعلمية، فنحن بحكم العادة والطبيعة، نشك في اللحوم العادية أي تلك التي تنمو داخل المواشي التي ترعى على مرمى عيوننا في المزارع والحقول، فما بالك بتلك الأطباق المشكلة من خلايا جذعية داخل المخابر المغلقة، والتي تنمو فيها اللحوم المصنّعة بشكل يثير الريبة والرعب.
وكأننا صرنا مخلوقات فضائية ثم أنها ليست جيدة للصحة، وهذه اللحوم خالية كما يؤكد العلماء من حديد الهيم على سبيل المثال لا الحصر، وهو نوع من الحديد الذي يوجد في السمك واللحوم، ولا يمكن الاستغناء عنه. هذا ما توصلّت إليه الدراسات، والتي أظهرت أن الاستهلاك المستمر لها قد يؤدي لمخاطر صحية كثيرة وهذه المخاطر في حالات الغش والتلاعب التي لا تغيب عن الضمائر الغائبة، هي حالات ليست أقل كارثية من اللحوم الفاسدة.
جدير بالتنبيه في العالم العربي، إلى أن هذه اللحوم المخبرية ذات التركيبات الكيميائية المعقدة ليست من فصيلة تلك الموجهة للنباتيين والمصنعة من مصادر غير حيوانية. وفي هذا الصدد أكد العلماء ضرورة عدم الخلط بين اللحم الصناعي المنتج في المختبرات واللحم المصنوع من مستخلصات فول الصويا وغيره من بذور النباتات، وهذه المستخلصات غنية بالبروتين النباتي.
وعلى الرغم من التهليل الكبير لهذه للتجربة من ناحية انخفاض أسعار التكلفة ومدى مساهمتها في محاربة الفقر، فإن خبراء إنتاج حيواني استبعدوا نجاح هذه المحاولة نظرا للتكلفة الباهظة لعملية استنساخ الخلايا الجذعية بدليل أن إنتاج أول سندويش همبرغر في هولندا قد كلف أكثر من 380ألف دولار، فكم يلزم هذه الوجبة الشعبية من الزمن حتى تصل إلى سعر الدولارين وبطون الفقراء؟
قريبا ـ ومع اكتساح اللحوم الصناعية للأسواق ـ سيجد النباتيون أنفسهم في مأزق أخلاقي، ذلك أنه بمعاداتهم لقتل الحيوانات، سيشرّعون لقتل الإنسان من حيث لا يدرون، ذلك أن السموم والمواد المسرطنة في هذه الصناعة قد تكون فجائعية ويمسي فيها الإنسان مثل ذلك الذي أراد أن يربح كل شيء فخسر نفسه كما أن أصدقاء البيئة والمشتكين من الاحتباس الحراري بسبب غازات الحيوانات الملوثة، سيكتشفون أن مخابر كثيرة لتصنيع اللحوم ستنتشر كالفطر وتتسبب بكوارث بيئية عديدة فيصبح هؤلاء كمن يحتمي بالرمضاء من النار.
وأخيرا فإن لعاقل أن يسأل نفسه: لماذا تتهافت كبرى الشركات العملاقة على هذه الصناعة وترصد لها المبالغ الخيالية التي من شأنها إنقاذ البيئة بطريقة أضمن وأكثر أمانا.. هل تقدم هذه الشركات على مثل هذه المغامرة لسواد عيون الإنسانية ورفاهيتها المستدامة؟