الطفلة الشاعرة
ما تزال الحادثة ماثلة في ذاكرتي بكل سخونتها و حنانها بالرغم من مرور السنين …كانت إبنتي في الشهر العاشر من عمرها ، و كنا في صالة الدار وحدنا، هي في كراجتها و أنا على مقعدي أراقبها و هي تدنو من النافذة المغلقة ، كان ثمة خيط من شعاع الشمس يتسلل من خلال “الأباجور” الخشبي المغلق و كأنه خيط رفيع .
رأيت الطفلة تقترب من الشعاع ثم تمد أناملها الصغيرة كمن يريد القبض على الشعاع الذي أدهشها ثم تشد قبضتها فوقه و تقربها إلى صدرها ثم تفتح كفها ..
ياإلهي ..! لم يكن في الدنيا لحظتئذ شيء أجمل من نظرتها المشدوهة و هي ترى إلى كفها الفارغة!
لو أن شاعرا وصف هذا المنظر كما هو من دون رتوش ولا فلسفة فنقل إلينا تلك الرعشة التي أحسست بها في تلك اللحظة ، فماذا نجد من التسميات اللائقة بعمله سوى”الشعر”؟!
لقد جرت العادة أحيانا على تسمية الفنان بطفل كبير ، و لكن ها هو الطفل يكبر و بينما هو يكتشف العالم نجد أن جميع ما يدور حوله سوف يتلون بألوان والديه اللذين يريدان أن يرى الحياة بعيونهما ، ثم ينتقل إلى المدرسة فيرى مديرها و المعلم و الناظر الموجه كلهم يلقنونه الدرس ذاته كي يغدو نسخة طبق الأصل عن شخصياتهم حتى إذا بدأ يقرأ و يفكر تهرع المذاهب و الإيديولوجيات و التعاليم الطقوسية إلى برمجته كمخلوق عاقل مهذب حسب تعاليمهم فإذا خطر له أن يبدع كلاما يشبه الشعر مثلا بادر الجميع إلى تلقينه أصول اللعبة الإبداعية حسب الأنماط السائدة، و إذا ظل قارئا أو مستمعا أومشاهدا متذوقا فما أسرع الجميع إلى محاصرته بالمواعظ لصقل ذوقه حسب أصولهم فتراه غالبا لا يحمل من التذوق في الطعام و الفكر في ثقافته إذا كان متعلما كما في سلوكه إلا ما تلقاه وتعود عليه من مجتمعه متعصبا أو مؤيدا على الأقل و من هذا الصنف من البشر يتكون عادة القسم الأكبر من الحكام و الموظفين و القضاة و المحامين و الزعماء و رجال الأمن …الخ هكذا يتحول المجتمع في البلدان المتخلفة إلى قطعان من الجماهير المدجنة المطيعة طاعة عمياء لمن يشرف على قيادتها فإذا فسرنا حديثنا على الفنانين فهم عرضة مثل غيرهم للخضوع حتى للتقاليد و التعاليم البالية و إذا مالو للتجديد فهم غالبا مقلدون للأجانب تقليدا أعمى أو مغامرون في تجديد لا أصالة فيه .
إن الطفولة في الإبداع الفني لا تعني المتخلي عن الأصول المدرسية الأساسية في إستخدام اللغة و الألوان و الأحجام في الرسم أو النثر الفني، أو الشعر مثلا …الطفولة التي نعنيها هنا إنما هي الخصوصية التي يتفرد و يتميز بها الشخص عن الأخرين و هي الخصوصية التي توجد عادة لدى الأطفال قبل أن يتعرضوا لسلطان التربية الجماعية الصارم حين يفقد الفنان حس الدهشة و فطرة البراءة و يغدو مجرد رقم في حساب المبدعين …