عباس النوري… السجين السياسي في أروقة دراما دسمة
«أدعو إلى تشكيل جيش إلكتروني لدعم المسلسل». بهذه العبارة واجه النجم السوري عباس النوري وسائل الإعلام في قاعة الدراما في دار الأوبرا في دمشق بعد سنواتٍ من الغياب عن تلك الوسائل. غيابٌ اخترقته فكرة باح بها المخرج محمد عبد العزيز له، جعلت نجم «باب الحارة» يبتعد عن الموسم الدرامي الماضي من أجل تبنّي الواقع المحبوك والقصة الدرامية الدسمة والبسيطة، التي استحوذت على فنه وتمثيله وإبداعه في مشابهة الحياة ثمانية أشهر كاملة، حتى انتهت بولادة «ترجمان الأشواق».
تلك التجربة التلفزيونية هي الأولى لمخرج سينمائي، والإستثنائية لدى بطل «ليس سراباً»، بالشراكة مع الكبار غسان مسعود، فايز قزق، والقديرة ثناء دبسي، بحكاية قصّة ثلاثة أصدقاء يساريين، افترقوا منتصف تسعينات القرن الماضي، ليتحول أولهم إلى التصوف، ويبقى الثاني وفياً لمبادئه. لكن رياح التغيير تودي به إلى ما لا يريد، في حين اضطر الثالث إلى الهجرة خارج البلد، ليعود بعد غياب عشرين عاماً بسبب اختطاف ابنته ويستعيد ذكرياته القديمة مع أصدقاء الأمس.
انتظارنا صبيحة 15 من الشهر الماضي لحضور أصحاب العمل، رافقه ترقب لظهور بطله بيننا، فهو المعروف بابتعاده عن الصحافة لسنوات. لكن جلوسه إلى جانب المخرج محمد عبد العزيز والكاتب بشار عباس، والفنانين علي صطوف، رنا ريشة، ونوار يوسف قطع الشك باليقين، وجعلنا شهوداً على العديد من المواقف التي سجلّها في مؤتمر نظمته «المؤسسة العامة للإنتاج» (سيريانا) ممثلة بماهر الخولي، واصفاً لنا ما ترك العمل انطباعاً في قلبه الدمشقي.
وقبل أن تتوجه إليه الأسئلة، تحدث الفنان عباس النوري عن التجربة مع المخرج محمد عبدالعزيز: «شرّفني جداً العمل بهذه التجربة، وبإعتقادي فإنها إستثنائية جداً، وتعتبر في تاريخي الفني نقطة مختلفة، تحمل إنعطافاً مهماً باتجاه تحقيق صورة أقرب للواقع. الهاجس الوحيد الذي رافقني خلال مشواري الفني أن أُشبِهَ الحياة إلى أبعد حد. وبهذا المبدأ تعاملت مع جميع المشاريع الفنية التي قدمتها. فالفنان عندما يشبه الحياة تمثيلاً أو إخراجاً، فإنه يبدأ بعكس مسؤوليته عن التعبير. وبعملنا هذا، أنتجت الشراكة الموجودة فيه تلك المقاربة للحقائق بأن يكون المسلسل بجميع تفاصيله حقيقياً يمس قضايا مأخوذة من حياتنا نحن السوريين. حقائق ليست عناوين وشعارات وقضايا للمثقف فقط، خاصة أنّ عامود العمل هو الثقافة بعناوينها العريضة، ومواجهتها للواقع، ومحاولة تشكيل رأي والتأثير بالرأي العام وقيادة المجتمع. لها حضور مختلف واقعي وشعبي وبسيط جداً، وهذه البساطة لم تأت إلا من عمق شديد في النص المكتوب أوجدها صاحب الفكرة المخرج محمد عبد العزيز وكاتب العمل بشار عباس».
التصدي للسجين السياسي المثقف
حالما سنحت لنا الفرصة، سألناه عما أغراه في تجربة محمد عبد العزيز الأولى على الشاشة الصغيرة، فأجاب: «فكرة العمل أغرتني للمشاركة فيه قبل قراءتي لأي سطرِ من النص. وبمجرد أن أخبرني المخرج محمد عبدالعزيز عنها، أحببت التصدي لهذا النوع من الشخصيات (المثقف)، التي تعتبر بشكل من الأشكال قائد رأي، واقتراب رواية العمل من الواقع بشخصيات تشبهنا لدرجة كبيرة جداً. تجربة «نجيب» تبدأ بأنه دخل السياسة من باب المعتقد والإيمان والمبدأ، لكنه في النهاية دفع الثمن. وبرؤية العمل فإن لبس عباءة المناضل فات أوانها الآن. نحن أمام واقع سياسي ومن المفروض أن نتعامل بواقع سياسي ممكن وليس بالشعارات. هذا ما جسدته تلك الشخصية.
أنا ابن ذلك الجيل وكنت شاهداً على نماذج مشابهة للشخصية التي أديتها. وحتى الوسط المحيط بأبطال القصة، فإن الحاضن الاجتماعي لتلك الشخصيات الأساسية واقعي وبيئي وشعبي، يشبه الحياة بمكونات مجتمعنا». وأضاف: «ما شدّني أكثر إلى أن أكون بين أبطال العمل، حالة القبول للتعاون بكل تفاصيل العمل، بدءاً من أي فكرة ذات علاقة بالتعبير عن المشهد، سواءً أكانت بالنص، أو بالممثلين، تلك المساحة كانت كبيرة لدى المخرج محمد عبد العزيز، بتفكيره العميق والبسيط في نفس الوقت، وبإخلاص الفنيين والتقنيين في اكتمال النتيجة الأخيرة التي وصلنا إليها. أما السؤال الأساسي عن سبب اختياري هذه الشخصية، فالحقيقة أنها هي التي اختارتني، وأتحمل مسؤولية أداءها كاملةً».
خيوط متشابكة حول الشخصية
دور البطولة الذي لعبه عباس النوري هو «نجيب» السجين السياسي السابق، مؤلف ومترجم، منتصف الخمسين، اعتنق معتقداً سياسياً في فترة من حياته. كان متزوجاً من إنسانة تشبه أفكاره، أنجب منها ابنته الوحيدة، لكنه دخل السجن لإعتبارات سياسية. وأثناء فترة سجنه، انقلبت زوجته على معتقداتها وأفكارها، وطلقت نفسها منه بحجة الغياب وضمان الشرع لذلك. يخرج من السجن ليجد نفسه مطلقاً ومجرداً من حقوق تمنعه العيش، مما اضطره للهرب خارج البلاد. ويبقى الخيط الوحيد الذي بينه وبين أسرته موصولاً بتكنولوجيا التواصل لمدة عشرين سنة، تلونت بالإغتراب عن بلاده وليس فقط عن أهله. لكنه يضطر إلى العودة بسبب اختطاف ابنته.
وهنا يكتشف أن عليه تحرير نفسه أيضاً بعلاقة جديدة مع الوطن. وتابع قائلاً: «تسليط الضوء على التنظيمات المسلحة بما فيها المتطرفة، واليساريون، حتى الأجهزة الأمنية، جرأة كبيرة في العمل من خلال قراءة الواقع وكل شرائحه، بطريقة مسؤولة. مقاربة العمل للواقع وتجلّي تفاصيل الأزمة بين الناس كانا الهم الأكبر للمسلسل، الذي لم يعنَ بعرض رأي سياسي، بل بالبحث عن الحل بعيداً عن أي نقاش أو معالجة للأزمة التي نمر بها. قصته الإجتماعية والشعبية سبب رئيس لأن أجسد تلك الشخصية، التي أراها قد حققت ما أردناه». وأضاف: «هناك امتياز للشخصية السياسية والمثقفة بحقيقتها. رسمت صورة المثقف الطبيعي المخطئ والمصيب، الذي يدخل في علاقة مع راقصة بشكل سري لعقده النفسية والجنسية ويمارس حياته بشكل واقعي، وليست محنطة بأدب السجون والنضال، بعيدة كل البعد عن الحالة الخشبية التي أطرت مفهوم المثقف».
جيش إلكتروني
الدعوة لهذا الجيش الإلكتروني قصدها نجم العمل بمعناها الحقيقي، طالباً من جميع الحاضرين رسم صورة صحيحة للترويج عن عمل آمن بكل تفاصيله، وتحمّل الصحافيين لمسؤولياتهم في بحور التواصل الإجتماعي المنفلتة، خاصةً أنّ الصحافيين هم الأقرب للمشهد الثقافي الفني، ثقة وضعها عباس النوري بمن وصفهم بالجديرين بها، والعاكسين بكل أمانة لرأي الجمهور، الذي سيكون العلامة النهائية لإختبار تلك المادة الدرامية.
علاقة جديدة بالجمهور
رؤية جديدة بالعلاقة مع الجمهور ستكون حاضرة في «ترجمان الأشواق». الفنان عباس النوري يرى أن أي عمل درامي بمستوياته المختلفة صنع علاقة مع الجمهور، وربما حضوره في جميعها جعل العلاقة شائكة، لكن هذا العمل يعيد العلاقة بطريقة مختلفة مع الجمهور بمسؤولية كبيرة، ويشكل صورة مختلفة ستدخل المشهد الثقافي العربي بجمهوره الواسع. وعن ذلك، يتابع: «العمل عبارة عن حكاية شعبية. لا يعبّر عن شريحة ولا يقصدها، ونحن معنيون بتقديم حكاية بوجبة درامية دسمة وبسيطة في آنِ معاً».
المشهد الثقافي والفني في سوريا
حول ما جرى ويجري في المشهد الثقافي، يعلّق النوري: «المشهد الثقافي والفني السوري تأثر بهذه الأزمة وتشظى، ونحن فاقدون للكثير من أركانه الأساسية، لكنهم إلى الآن مزروعون وأساسيون في هذا المشهد الثقافي الذي يجب أن ندافع عن إكتماله وليس عن أشخاص بداخله. غياب الشخصيات المثقفة والأديبة والمفكرة ممن تشبه الكبار محمد الماغوط وعبد العزيز هلال، اللذين أشرفا على المطبخ الدرامي للتلفزيون السوري في فترة كنت شاهداً عليها منذ أيام الأبيض والأسود، أمر خطير للغاية. عندما كتب أكرم شريم عمله الأخير «أيام شامية» عام 1991، توقف بعد تنفيذه وعرضه 1992 نظراً للهجمة الأمية في تناول وصياغة وكتابة الأعمال الشامية». وتابع: «الكثير من المؤلفين برزوا على الساحة الفنية في الآونة الأخيرة، واكتفوا بتعلم مهنة الكتابة فقط من دون أي نتاج فكري يليق بالدراما السورية في زمنها الذهبي. ولا تزال تلك الأمنية الكبيرة تلازمني بعودة تناول القضايا والموضوعات بشكل درامي. فمقاربة الأعمال الدرامية وشبهها بالحياة، قائم على الثقافة وليس على شيء آخر».
الجرأة ضرورة لتوسع الأفق
توسيع مساحة التعبير في «ترجمان الأشواق» كان من خلال الجرأة بالطرح، وهذه خطوة مهمة احتسبت للمؤسسة العامة للإنتاج، التي وصفها عباس النوري بأنها المؤسسة الأغنى فكرياً وثقافياً لكنها ما زالت فقيرة للأسف. ويوضح: «المؤسسة بحاجة إلى دعمِ كبيرِ جداً، ليس بالمال وإنما بتنشيط حرية ومرونة حركتها الإنتاجية باتجاه قبول نصوص من هذا النوع الجريء». وأضاف: «الدعوة لتوسيع هوامش التفكير ليست فقط للمؤسسة إنما لكل الجهات الإنتاجية للدراما، مما يجعل السوية المعرفية متجلية، والقدرة على أن تكون تلك المؤسسات مضيفة بشكل إيجابي على المشهد الفني والثقافي، لا أن تكون العملية الإنتاجية إجتراراً لما تريده الفضائيات، ذات التناول الرخيص للأعمال البيئية والإجتماعية».
صحيفة الأخبار اللبنانية