فتاوى التخلف

جيوب التطرف والكراهية تقف خلف ذلك الوابل الجارف من التعليقات الساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تنتقد مشاركة المسلمين للمسيحيين احتفالاتهم بأعياد الميلاد، وتعتبره مظهرا من مظاهر التقليد الأعمى للغرب المسيحي.

وتزداد هذه الحملات شراسة في البلدان العربية التي يشكل فيها المسلمون أغلبية ساحقة، ولم تتعرف إلى المسيحية والمسيحيين إلا عن طريق الأوروبيين مثل بلدان المغرب الكبير التي عادة ما تقترن فيها العروبة بالإسلام ولا ينظر فيها للمسيحي إلا كمستعمر الأمس عند الأجيال الأولى من الاستقلال.

غذى هذا التحامل على المشاركين للمسيحيين أعياد الميلاد، جملة من فتاوى التخلف وخطابات الكراهية وذهنيات الانغلاق التي تنضح بها منابر إعلامية كثيرة تجاوزت الشبكة العنكبوتية نحو جرائد ورقية وقنوات تلفزيونية صريحة، تدعي الاعتدال والحشمة والمحافظة والتوجه للأسرة.

تتستر هذه الأصوات الأصولية بالخصوصية المجتمعية والتصدي لمظاهر الاستلاب الثقافي، والتفسخ الاجتماعي فتبث سمومها عبر خطاب يدعي التوعية والعقلانية ويصطنع روح الدعابة في رفض تلك التشاركية الحميدة التي من شأنها أن تعزز السلوك التسامحي وتنبذ الضغينة والتطرف وتنتصر لبهجة الذهاب نحو الآخر كسلوك حضاري بامتياز.

أمثلة ونماذج كثيرة لكتابات وتعليقات يتناقلها المتزمتون حول نقد مشاركة المسلمين للمسيحيين أعيادهم، وفيها تظهر تلك العدائية المغلفة بالسماجة وافتعال الدعابة، وذلك سعيا منهم إلى ترويجها على نطاق أوسع كقول أحدهم في عمود صحفي حمل عنوان “الشيخ نويل” وتبادله بعض الشبان المغرر بهم أو المتحمسين له عن حسن نية: تحتفل أولا تحتفل فالأمر لا يعني سواك، ولكن إن كنت لا بد محتفلا فلا تفتح الباب لشهواتك ونزواتك، وتحرم أولادك من حقهم في الإنفاق وتسيح في الأرض فسادا فتقتني الخمور وتتناولها أمام زوجتك وأولادك وربما شاركوك في ذلك.

ويتمادى كاتب هذه العبارات في مغالطاته متوخيا أسلوب الوعظ والإرشاد وتقديم النصيحة حتى يخال البسطاء من الناس أن مشاركة المسيحيين احتفالاتهم في أعياد الميلاد ضربا من الجريمة التي لا تغتفر، إذ يختتم كلامه متوجها لجيل الشباب ” إن في ذلك تقليدا أعمى لا ينم سوى عن انهزام نفسي، وخنوع قيمي، واستعباد حضاري”.

الغريب المريب في الأمر أن مثل هذا الكلام تتناقله منابر إعلامية تقدم نفسها كأصوات للاعتدال والوسطية والوقوف مع الدولة والمجتمع في التصدي للتطرف وموجات العنف والكراهية.

الحقيقة أن انتقاد المسلمين في مشاركتهم للمسيحيين أعيادهم، تقف وراءه فتاوى تكفيرية صريحة لكنها تتسلل تحت ذرائع أخرى وبطرق تدعي النصيحة والحرص على التقاليد مما يزيد من تعميق الهوة بين مكونات المجتمع ويسهم في التباعد بدل التقارب، ويصور احتفاليات الآخر طقوسا غرائبية ذات نوايا تستعدي المسلم وتستهدف هويته وكيانه فيبادر المستلبون وأصحاب الأدمغة المغسولة إلى معاداتها ومحاربتها ظنا منهم أنها تشكل خطرا على عقيدتهم.

وفي هذا الصدد يبرر أحد أئمة التكفير على صفحته العنكبوتية، تكفيره للمسلم الذي يشارك المسيحي أعياده بقوله “قد يُعجب المسلمون في غمرة هذه الاحتفالات بالشعائر المسيحية، ومن ثم يتَّبعونهم فيها، لاسيما مع هزيمتهم النفسية، ونظرتهم إلى الكافرين بإعجاب شديد يسلب إرادتهم، ويفسد قلوبهم ويضعف الدين فيها”، ويذهب هذا التكفيري بعيدا في تحاليله وقراءاته للأمر، فيضيف بأن ” الكثير من المثقفين المغتربين يصف الكفرة بالرقي والتقدم والحضارة حتى في عاداتهم وأعمالهم المعتادة، ويكون ذلك عن طريق إظهار تلك الأعياد في البلاد الإسلامية من طوائف وأقليات أخرى غير مسلمة فيتأثر بها جهلة المسلمين في تلك البلاد”.

هذا الخطاب الموغل في الجهل والظلامية ينطوي على نفس تحريضي مبطن يدعو فيه المسلمين إلى التخلص من الأقليات الأخرى لأنها تضمر العداء لعقيدتهم وتنصب الفخاخ إلى ضعاف النفوس في رأيه بغية جعلهم يعتنقون دينا غير دينهم، لذلك وجب مقاطعة هذه الاحتفاليات، لا بل معاداتها ومن ثم محاربتها.

المتطرفون والإرهابيون والمسوقون لخطاب الكراهية دائما يبحثون عن الذرائع لممارسة دمويتهم، وكثيرا ما يجدونها ضمن منطق تلفيقي وبدعوى حماية الإسلام والمسلمين. وبالمقابل فإن حتى المتشددين من المسيحيين في البلاد العربية لم يبادروا إلى مثل هذا التفكير بدعوى الحفاظ على وجودهم وحماية هويتهم من الذوبان في الأكثرية المسلمة، فترى المسيحيين على امتداد العالم العربي يهنئون جيرانهم ومواطنيهم المسلمين في أعيادهم ويشاركونهم الاحتفالات دون توجس أو خوف أو تفكير مسبق.

لا يمكن بطبيعة الحال، تعميم هذه الظاهرة المتمثلة في حملات انتقاد المسلمين المشاركين للمسيحيين احتفالاتهم بالميلاد، فهناك وبالمقابل، مظاهر إيجابية كثيرة عكست روحا من الوئام بين أتباع الديانتين في العالم العربي هذا العام، خصوصا بعد أحداث ووقائع قرّبت المسلمين من المسيحيين أكثر. ومن هذه الأحداث القرار الأميركي المشؤوم بنقل السفارة إلى القدس وما أعقبه من غضب نتج عنه تضامن مسيحي إسلامي واضح رافقه إلغاء المظاهر الاحتفالية والاكتفاء بالتراتيل والصلوات.

الأمر الآخر، والذي يعدّ عاملا من عوامل التقارب بين الديانتين هو بداية اندثار إرهابيي داعش بعد المحنة التي تعرض لها المسيحيون في بلدان مثل العراق وسوريا ومصر، وما سببته من تضامن من طرف المسلمين الذين كابدوا بدورهم وذاقوا الأمرّ من الإرهاب والإرهابيين.

لكن انتشار ظاهرة السخرية من المسلمين الذين يشاركون المسيحيين أعيادهم هذا العام، في بعض الأوساط الشبابية المسلمة على مواقع التواصل الاجتماعي، من شأنه أن ينذر وينبه إلى أن الجماعات التكفيرية لا تترك مناسبة دينية إلا وتستثمرها لصالح مشروعها الإرهابي، خصوصا بعد هزائمهم الميدانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى