محاولة لاكتشاف الموت!

فرض الفضولُ عليّ رحلة نادرة إلى المقبرة، فالمقبرة قريبة من الأماكن التي أكون موجودا فيها عادة في القرية، لذلك ذهبت وحدي، وتجولت بين القبور، ولم أجد شيئا ذا معنى سوى أشواك كثيفة فوق قبور الميتين منذ زمن طويل وبعض أحجار بيضاء كُتبت عليها أسماء ضاعت من الذاكرة، وكان هناك صمت مطبق يلف المكان.. والغريب أنني لم أشعر بالخوف مع أنني لم أكن قد تجاوزت الثامنة من عمري!
ودائما كان يجذبني حديث الموت عندما يجري عن شخص قريب غادر الدنيا، إلى أن اكتشفت أن للموت رائحة، وأن للموت رهبة، وأن للموت حقائق، ثم فجأة طرحت السؤال على نفسي: هل يمكن أن أموت أنا؟!
في مرة ثانية، ذهبتُ إلى المقبرة لمشاهدة مصير رجل مات وخرجتْ جنازته سيرا على الأقدام، وقد تملكتني الرغبة لأرى وجهه، وهكذا تسللت بين المشيعين إلى أن وصلت حافة القبر، فرأيتهم يكشفون عن وجهه في الكفن، ويترحمون عليه، ثم يهيلون التراب على الزاوية التي حشر فيها جسده في قاع القبر، ثم ينصحونه بما سوف يفعله عندما يأتي ملكان لاستجوابه!
كان ذلك منذ زمن طويل، وكنتُ أظن أنني لن أموت، ولذلك كنتُ أشفقُ على الموتى، لأنهم ماتوا، وكان أكبر هاجس يشغلني أن يأتي الوقت الذي يموت فيه أبي أو أمي أو أخي أو أختي، أما أنا .. هه، فلم يخطر الأمر ببالي، فأنا لن أموت كما كنت أعتقد، وكان مصدر عقيدتي تلك فتاة مغرورة بطفولتها كنت أرافقها، فتقول لي : كل الناس ستموت إلا نحن الأطفال!!
وذات نهار شتوي، وكنت قد أصبحت فتى، رافقت جنازة جارنا إلى المقبرة. وكانت حارتنا ضيقة، وبين بابنا وبابه متران فقط، وكنت أسمع شجاره مع زوجته العجوز التي كانت تعيّره بصوت واهن، وبلهجة شعبية رخيصة، بضعفه وتردد أمام أولادها :
ــ حاجتك يارجّال . خلص كازك !
وعبارة ” خلص كازك” تدل على نهاية الوقود من المصباح الذي يشتغل على الكاز، ومعناه أن المصباح سينطفئ، أي سيموت !!
كان الجو باردا. عندما شيّع أهل الحارة جنازة جارنا. وكنت أتدثر بفيلد عسكري استعرته من أخي، وألف رأسي بوشاح صوفي قادر على صنع الدفء حول وجهي، وعندما فتحوا التابوت وأخرجوا الجثمان ووضعوه في القبر، اعتقدتُ لوهلة أن أصعب ما في الموت هو البرد الذي سيصيب الميت، واعتقدت أيضا أنه ينبغي أن يضعوا في القبر أغطية سميكة لأوقات الشتاء ووسادة وجرابات صوفية، وعندها بدأت أستشعر الخوف من الموت!!
نعم حصل هذا معي، وكان ينمو في داخلي سؤال كبير عن الموت . نعم : ماهو الموت؟ ولماذا هو موجود في حياة الكائنات؟ وماذا بعده؟!
وسريعا أخذتني الأسئلة إلى محاولة للبحث عن شيء ما يلغي الموت من حياتنا. أي أنني صرت مثل جلجامش أدور وأدور وأدور بحثا عن العشبة التي تجعلني خالدا لا أموت، وكنت قد وصلت إلى حقيقة أنه حتى أنا سأموت، وإذا حصل هذا كيف سيكون الحال عندها !
بدأت عجلة الزمن تقفز دون رحمة. توفي أبي في أول مفاجأة هزتني كزلزال، عندما رمته سيارة مسرعة على أرض الشارع محطما، فسلم روحه بعد دقائق. كسرني موته أمام رحلة الترقب مع الموت، وكنت قد أصبحت شابا، وعرفت أن الموت قادم إلينا لامحالة !
بدأت حبات السبحة تتساقط واحدة تلو الأخرى إلى أن مات كثيرون من أسرتي حتى ظننت أن الأسرة ستنقرض، وفي كل واحدة من تلك الحالات كان الهاجس الأكبر يسيطر عليّ: “ينبغي اكتشاف الموت! “.
قبل سنوات، كنت أشاهد مقابلة تلفزيونية مع الشاعر الكبير محمود درويش تحدث فيها عن الموت، فقال إنه دخل غرفة العمليات في لندن لإجراء عملية جراحية في قلبه المتعب، وخلال العملية أحس أنه تسلل من جسده وحلق في المكان، وهو شعور ممكن في حالات الدوّار والتخدير، لكن ماذا كان يعني ذلك ؟ وماذا كشف هذا الشاعر الملحد الذي قال على شاشة التلفزيون إن يحكي ما حصل، وهو لا يزال ملحدا تماما ؟!
قال محمود درويش إنه شاهد ، من فوق، جسده المسجى في غرفة العمليات، شاهد الأطباء يشتغلون بسرعة وارتباك، وأنه تمكن من رؤية مظلة الإضاءة في الغرفة من فوق، وقرأ أشياء كتبت عليها من الخلف ولايمكن لأحد أن يقرأها إلا إذا نظر من فوقها!
عندما انتهت العملية ، ذكر محمود درويش ذلك للأطباء، وقاموا بدورهم بالتأكد من العبارات المكتوبة فوق المظلة، فإذا بهم يكتشفون أن كل ما قرأه صحيح ويتعلق بالشركة المصنعة لتلك المظلة وبعض التعليمات باللغة الانكليزية، وأخبره الأطباء أن قلبه توقف خلال العملية وحدثت تطورات في جسده تشبه الموت، أي أنه مات وعاد للحياة ، وأنهم أنقذوه بأعجوبة !
ثم فسر الأطباء البريطانيون ماحصل بأن الروح تخرج من الجسد عند الموت وتحلق في المكان لترى جسدها ، تماما كما حصل مع الشاعر محمود درويش!!
لا أعرف ما الذي سيحصل عندما يأتي دوري في حبات السبحة، ولكني قررت منذ الآن، أنني، وعندما أموت، لن أحاول قراءة أي شيء مكتوب على خلفية الأشياء المعلقة، فربما كتب عليها اسم العشبة التي كان يبحث عنها جلجامش واسم مكانها القريب من بيتنا، في حين فات الأوان ، ولم يعد استخدامها ممكنا !