«حكاية فخراني» رحلة في التاريخ ورموزه الروحانية

تحتاج رواية الكاتب المصري محمد موافي «حكاية فخراني» (دار الشروق- القاهرة) إلى يقظة تامة من قارئها، حتى يستطيع أن يستخلص الحكاية الذائبة في بحر مديد من لغة عميقة، تلفت إلى ذاتها، بحيث تنهل من قاموس ثري، وتصنع صوراً تستحق التوقف عندها، ولا تكل ولا تمل في بث الحكمة، أو تقديم النصائح، ومشاكسة التاريخ كي يقدّم خلاصاته بلا مواربة ولا التواء أحياناً.

وعلى القارئ أن يتنبه إلى مغزى الارتحال في الزمن بين ما يجري الآن وما جرى في زمان مضى؛ واصلاً جانباً من التاريخ الاجتماعي والسياسي لمصر، لكنه لا يطغى على الروح الأصلية للرواية المتمثلة في التصوّف بكل ما يعنيه من غموض آسر، ولغة شاعرية، وفيوض روحانية، وتحليق في البعيد. كما لا يجور اللعب مع الزمن كثيراً على الهدف الذي حدّده الكاتب/ الرواي لهذا النص حين قال: «الذي جعلني أستمر، هو أنني ما اخترتُ رواية الحكايات، هي اختارتني، واجتمعت لديّ. قلتُ: لو اخترتَ طريقاً فاصبر، وإذا اختارك طريقٌ، فاركب ظهر فرس أحلامك، والإشارة ساطعة، لا تغني عنها كلمة، ولا ألف عبارة».

تحكي الرواية عن زين الدين الذي يقول عن نفسه: «ورثتُ الحكمة كابراً عن كابر، وذقتُ الشفافية وارثاً عن وارث، وصحبني الشكُ في العقل ناقلاً عن ناقل»، وهي قدرات عقلية ونفسية دفعته إلى السعي وراء سيرة جدّه الكبير؛ المهدي الفخراني؛ فأتى من أسيوط في صعيد مصر إلى القاهرة طالباً المخطوط المعروف باسم «سماع المعلم لروحٍ يتكلم». وحين يشرع في تدوينه تتهادى أمامه سيرة الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، بما تنطوي عليه من أسرار روحانية، ومعان عميقة، تنثال من قريحته الوقّادة، ووجدانه العامر بالروحانيات الخالدة.

وهنا تتداخل السيرتان، وتتبادلان المواقع والمواضع والأدوار، ساعيتين معاً إلى بناء حكاية تتهادى على مهل، عبر سرد يُبنى بتؤدة. يتوقف الكاتب عند كل حال ومقام ليبثّ لنا ما يجول في خاطر راويه، الذي يتماهى كثيراً مع الكاتب نفسه، فنعرف الكثير عنه، بقدر ما نعرف عن أبطاله، وعن السيرتين الممتزجتين في حنايا روايته.

منذ أن تبدأ الرواية بعبارة: «لولا رغبتي في انتشال روحي ما أزحتُ أنفي عن كفي»، وحتى تنتهي بعبارة: «اليوم أطرد كل وهم وأعترف بالحقيقة، فما الرواي إلا أنا، وما أنا إلا الراوي»؛ ونحن في توقف دائم مع الكاتب/ الراوي، لنعرف رأيه في الشخوص والأشياء والحوادث والوقائع والآراء والأفكار. وهي مسألة كان بوسعه أن يتركها لشخصيات روايته، كي تعبر عن نفسها بحرية، تتحاور وتصــف وتتعارك وتتأمل وتبوح وترفض وتعاني وتهنأ، لترسم ملامح الحكاية أو تشــيد بنيانها، عبر الأبواب السبعة التي قسّم الكاتب روايته عليها وأعطاها بالتتابع عناوين: صليب/ إشارات/ شهوة/ قلب/ عبد الصمد/ القبة/ الحياة… وسبق كل كلمة من هؤلاء بكلمة «بوابة»، وهو تقسيم لم يأت اعتباطاً، إذ إن كل عنوان يجمل ما تحتَه، أو يمثل بؤرة حكايته.

فالكاتب يتوقف طويلاً في لحظات تأمل لكل ما حوله، وبعض ما وقع في التاريخ، فيستجلي العظات والعبر، ويستخلص الحكمة، ويسقط الماضي على الحاضر، ويجعل من كل هذا ما يخدم مسار البحث عن الحقيقة العميقة للوجود، وعن مكابدات الإنسان، وأشواقه الدائمة من أجل الامتلاء الروحي والتحرر من القيود، والتسامي على الصغائر. يفعل هذا بنفسه، قابضاً على السرد بيد من حديد، توقن بأن ما تستعيره وتقطفه من كلمات جزلة، راسخة في بطون كتب التصوف ومعاجمه، قادرة وحدها على أن تصنع هذا النص الذي لا يعطي نفسه لمن يطالعه بلا جهد وعناية. وقد يحتاج منه أن يكون قد مرّ يوماً على كتب المتصوفة، أو لديه طرف من خبر بعض وقائع التاريخ الأوسط والحديث والمعاصر.

وينهل الكاتب في هذه الناحية من تجربته الذاتية، فهو صاحب دراسات في التصوف واللغة، وله ديوان شعر وحيد، إضافة إلى عمله في الإعلام، ومعروف عنه أنه ذرِب اللسان، يحتفي باللغة، ويحرص على سلامة النطق. وهي مسألة صاحبته أيضاً في روايته السابقة «سِفرُ الشتات». كما أنه ابن رجل يصفه بأنه «روح خفّ لها جسدٌ، فعافَ النومَ، ولم تألفه الأحقاد… أنامل الذهب، وجبهة التجليات، ودولاب الحكايات»، وذلك في معرض إهدائه الرواية له. ويتخلّى الكاتب أحياناً عن ذلك لأبطاله، فيروي زين الدين والمهدي، بل يروي ابن عربي نفسه.

لكنّ الارتحال في ثلاثة أزمنة، تستغرق قروناً عدة، والتطواف في أمكنة شتى، الذي يكون متبوعاً بالوصف والتأمل، ووصل البعيد بالقريب من حوادث التاريخ، ما يخفف من طغيان حضور الكاتب، ومن وطأة عمق النص على قارئ هذه الرواية، ويمنحه متعة وفائدة في آن. المتعة قد تكون في الحكايات التاريخية الصغيرة التي تتوالد على ضفاف الحكاية الأصلية، لاسيما مع وجود أسماء لأعلام سياسية كبرى في التاريخ المصري مثل محمد علي باشا وأنور السادات.

والفائدة هي في تأملات الكاتب لهذه الأحداث، واستخلاصه منها ما ينفع في فهم ما يجري الآن، وكذلك في تناوله لجانب من التاريخ الاجتماعي لمصر، إذ يهبط من القصور والقلاع ليمشي بين الناس في الأزقة والحواري ويتوقف عند الحقول والحوانيت والورش، يردد أغانيهم وأناشيدهم وأمثالهم وتعبيراتهم.

صحيفة الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى