هذا الذي حصل في أمسية الشاعر نزيه أبو عفش !
دمشق ــ خاص بوابة الشرق الأوسط الجديدة
لم ينتبه الدمشقيون في تلك الأمسية إلى أن ثمة مكانا دافئا صغيرا يجمع عشرات المدعويين ليستمعوا إلى شيء من شعر نزيه أبو عفش شاعر سورية القديس ( كما كان يسمى)، الذي لم يبق الكثير من أمثاله من قامات الشعر السورية!
ولو حصل ذلك، في وقت آخر من الزمن الماضي، لضاق المكان على الحضور، وامتدت مساحة المكان إلى خارجه، تماما كما كانت تضيق قاعات المراكز الثقافية عندما يزورها شاعر بقامة نزيه ليقرأ نصوصه عن الشعر والحرية والأمل واليأس، وخاصة عندما يفتح قلبه للحوار مع الجمهور حولها.
الذي حصل، أن ذلك المكان الدافئ، وهو مكتب الفنان الدكتور طلال معلا في حي الجسر الأبيض بدمشق، كان فضفاضا واسعا بحيث لم يشغل عدد المدعويين القليل المقاعد الثلاثين الموجودة فيه، ومع ذلك فقد انتقتهم جمعية عين الفنون في دعوة خاصة، تتكرر كل شهر في نشاط محدود جديد!
بدت الفرصة مواتية جدا لنا للإصغاء إلى نصوصه الشعرية الجديدة والحوار حول تجربته في زمن صعب وبين نخبة معروفين في غالبيتهم، إلا أن نزيه أبو عفش أعلن منذ اللحظة الأولى أنه لم يكتب شعرا خلال الحرب التي تعيشها سورية، وأن نصوصه التي سيقرؤها هي من يومياته التي نشرها بعنوان : يوميات ناقصة، ولم يقرأ منها نصوصا عن الحرب إلا المقطع التالي :
” نريد الحياة التي لابد منها. نعم يكفي. ست سنين. يكفي ستة أعمار مقبورة في جبانة الحرب. يكفي. والآن، كما يحق لجميع اليائسين أن يحلموا. نريد سلاما. نريد أن نعود إلى الحياة التي نسيناها ..!!”
كثف في نصه القصير هذا خلاصة مايريده الإنسان السوري بعد سنوات الحرب التي مرت، وهذا التكثيف نقل صورة اليأس العامة، والتي في معناها المخفي أن أحدا لم يعد يريد شيئا سوى أن يعيش بسلام، وهي أحد أصوات السوريين الواسعة اليوم!
حكى الشاعر السوري نزيه أبو عفش في ” يومياته الناقصة” عن الشعر والحرب واليأس والموت وسط ضباب سجائره التي لم تنطفئ طيلة اللقاء الحميمي في جمعية عين الفنون صاحبة الدعوة، وفي الشعر والحرب واليأس حكاية غريبة يذهب فيها إلى الآخر تتعلق بالمرحلة التي عاشها قبل الحرب وبعدها، فيبدو نزيه صاحب رؤية ونبوءة سوداوية، رغم أنه نفى أن يكون تنبأ وربما كان قارئا لمعطيات لايمكن أن تنتش بذورها محصولا غير الذي نراه..
“ولأننا ضعفاء.. نبكي. ولأننا بسطاء.. نندفع. ولأننا قادرون.. نتحايل على عقد الحياة الشائكة: أحياناً بزفرة.. أحياناً بكلمة.. وأحياناً بقوة الذراع!
نتشابه في كل شيء.. في كل شيء.. لكن سامحني : تحت قميصي قلب.. وتحت قميصك.. مسدس’, ‘الآن، وقد غابت شمسي، أتذكَّرُني! الآن، وقد مالتْ أغصاني وتنكَّرَ قلبي لي، …”
لاتبدو هذه الحلة في مقطع واحد، بل في كل المقاطع التي حرص نزيه على ذكر تاريخ كتابتها قبل الحرب، فهي تحكي شيئا شبيها عن حال الحرب:
“نتشابه في كل شيء . نحلم ونغامر ونأمل .
نرتاب . ونكتئب . ونخاف المصادفات. نزور المقابر. وتتهادى الأزهار. ونقول لأصحابنا : صباح الخير !”
” الأموات على الشاشة أموات حقيقيون. أموات من لحم وعظام وخوف وموت. أموات ماتوا. أموات تعذبوا. أموات صرخوا قبل أن تجئ الكاميرات: (أيها العالم الكلب.. نبصق على شرفك)”
لم نشعر أنه نزيه جلس على طاولة أمامنا وكدّس أمامه بعض كتبه ، وفتح (لابتوبه) ليتحفنا بشعر مباشر مقصوص على قد الشعارات، فهو شاعر ينبض حساسية غريبة تجاه الكلمات والمواقف والصور التي ينتجتها من ذاكرة المعاناة، لذلك قبلنا حتى المباشر في نصوصه، طالما تزحف اللغة الشعرية إلى واجهة إحساسنا حتى ولو في عبارة عابرة.
أثارت نصوص نزيه أبو عفش جوا من كآبة الحرب على المدعويين، وأحس كثيرون أن اليأس يغطي وجه نصوصه بغلالة سوداء، إلا أن نبض الحكمة الموجود في خلاصة النصوص ظل يثير الإدهاش:
“كلانا يملك الحصانة
كلانا نعجة الذئب
كلانا يملك الحقيقة لكن لا أحد يملك الحق ! ”
ويقول أيضا في تشاؤمية من نهايات المقاطع التي قرأها واستعادها من يوميات عام 2000 : “سينتصر الشر!”
كان الحوار الذي جرى أكثر ودية ودفئا مما نتوقعه عادة من هذه اللقاءات، وتوزع بين الحضور القليل، ولم يكن مملا، فتحدث فيه المخرج السينمائي محمد ملص والفنان مصطفى الخاني والفنان طاهر ماملي والدكتور ماهر خولي وعدد آخر من الحضور، وفي أجوبته كان الدفء والصراحة سمة عباراته، فقد حكى عن الشعر كفن لم يعد يعرف كيف يتعامل معه في هذا الزمن، وحكى عن الحرب، وعن الحرية، وسريعا فرضت (الحرية نفسها) من خلال الخراب الذي عم البلاد تحت شعاراتها، وردا على سؤال اتُهم فيه بأنه حرّض في شعره على الحرية، وجعل جيلا ممن قرأه يعشقها، لكنه الآن يقدم نفسه يائسا لم يعد يريدها، فهل ورط الآخرين أم أن الحرية شوهت ممن رفع شعارها؟! وذكّره صاحب السؤال بقصيدة (كم من البلاد أيتها الحرية)..
نهض نزيه أبو عفش عن كرسيه، وترك سيكارته تحترق وحيدة في مكانها، وترك اللابتوب والكتب، وأعاد الحكاية إلى مواقفه الأولى من ((ربيع الموت العربي))، التي أحس منذ البداية بوبائها الذي أخافه ، وهو يقول :
“لم أتنكّر يوماً للثورة والعدالة والحرية، لكنني شممت رائحة الدم باكراً، فالبلدان التي تصنع الديمقراطية والأسلحة والحروب لن تسمح بالحرية وستخلعنا من الجذور». وذكّر بمواقفه من المسألة في بدايتها من خلال واقعة حصلت معه في بيروت : “عندما كتبت «ليتها لا تحدث»، نلتُ نصيبي من الشتائم والتخوين، وعندما كتبت «البيت سوف يُهدم»، ردّوا علي بأن هذا ليس بيتاً. قلت ليكن جحراً ولكن لندافع عنه، وعن الأمهات اللاتي ما زلن يبكين على موتاهن. وفي المقابل حين كتب منذر مصري «ليتها لم تكن» صفقوا له، فيما سحبوا السكاكين عليّ».
وقال في إجابته التي نقلتها أكثر من وسيلة : “أنا لم أتغيّر، فمن كتب «كم من البلاد أيتها الحريّة»، هو نفسه الذي كتب «تعالوا نعرّف هذا اليأس»، و«ما ليس شيئاً». الحرية ديانتي منذ الأساس».