تعليم العربيّة وتعلّمها وتحدّيات الحداثة
” وأيقنتُ (والكلام لإبراهيم اليازجيّ ) أنّها – أي اللّغة العربيّة – لا تزال في رَيعانِ شبابِها وطوْر ترعْرعها وأنّ فيها بقيّةً صالحةً لأنْ تجاريَ أوسعَ اللّغاتِ وأكثرَها مادّة. ولكنْ ما أدركَها من ذلك واردٌ من قبَلِ الأمّة وتخلّفها في حَلَبة الحضارة والمدنيّة؛ إذِ اللّغة بأهلِها تشِبّ بشبابِهم وتهرَمُ بهرَمهم ..”.
إنّنا إذ نورِد هذا الرأي للعلّامة إبراهيم اليازجي، الذي مضى على نشره مئة وعشرون عاماً (1898) بالتمام على صفحات مجلّة “البيان “الجزء الرابع منها، فمِن أجل أن ننطلق من مسلّمة هي أقرب ما تكون إلى الواقعة التي لا يُحتاج فيها إلى بيّنة، على ما يقول عُلماء الكلام. فهذه اللّغة الساميّة، النّاشِئة في شبه الجزيرة العربية، منذ ما يقارب الألفَي عام، هي من ” أرقى لغات العالَم” على حدّ قول جرجي زيدان (في كِتاب اللّغة والفلسفة اللّغوية العربية).
مع ذلك، تجدها وقد تجاوزَت الحقب كلّها، وعَبَرت بالنّاطقين بها أعتى التجارب والمِحن، وكادت مظاهر العمران والحضارة تندثر بفعل الحروب المُتلاحقة والاحتلالات المُتعاقبة من قبل شعوبٍ ذوات نزعات استبدادية، في السياسة والثقافة والتربية والتعليم والكتابة الديوانية (ظاهرة التتريك على سبيل المثال)، ولم يصبها الموات. بل إنّه كفاها أن تنهض لنصرتها جمهرةٌ من عُلماء اللّغة والأدباء والصحافيّين والمربّين، مطلع القرن التاسع عشر، ممّن آمنوا بربّهم وبلغتهم العربية الناطقة الحصريّة بهذا الإيمان، ينفضون عنها غبار الأيّام الذي علق على جوانبها من دون القلب ولا القوام؛ فرأيناهم يعملون التيسير في كلّ ميدان، في الصحافة كما في الترجمة، وفي العلوم الإنسانية، والمُراسلات الديوانية، وفي تأليف الكُتب المدرسية والمَعاجم والقواميس، ووضْع المصطلحات العِلمية النامية إلى كلّ عِلم من العلوم العلمية والإنسانية التي اختطّوا لها سبيلاً فريداً، في جامعاتنا الفتيّة، أواخر القرن التاسع عشر(فاندايك ، للمُفارَقة، كان أوّل مَن جهد في تَرْجَمة العلوم الطبّية إلى العربية في الكلّية الإنجيلية السورية في بيروت)، كفاها هؤلاء حتّى تنهض من كبوة استغرقتها أربعة أو خمسة قرون طوال، وتعود إلى فتوّتها الغابرة، وأصالتها النقيّة، ولاسيّما في باب الأدب الذي تعزَّزت فيه الاتّجاهات الحديثة بفعل التواصُل مع الغرب.
إشكاليّة الحداثة المُجتزَأة في تعليم اللّغة
ولكنْ، على الرّغم من اندراج اللّغة العربية، أوائل القرن العشرين، في إطارٍ حضاريّ حديث، عماده الدولة الحديثة، على الطراز الغربيّ (الفرنسي– الإنكليزي، تحديداً)، فإنّ الفوارق النوعيّة والكمّية بين الخزينَين العربي والغربي، في ما خصّ المصطلحات الدالّة على المُنتجات العلميّة (الصناعية ، والتقنية ، والفكرية وغيرها) ظلّت شاسعة، على ما تنبّه له اليازجي نفسه، عضو “المجمَع العربيّ” في القاهرة. فكيف حالنا اليوم، في القرن الحادي والعشرين، وقد تفاقمت المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في بلداننا، وتعاظَمت مفاعيلها حتّى كادت تذهب بكلّ جهود النهضة والنهضويّين، وكادت تطيح بدَور التربية والتعليم الإصلاحي والتنويري، وكدنا ننسى معها غاية التعليم، بل وظيفة تعليم اللّغة العربية الأساسية، وهي جعْل الإنسان العربيّ مُواطناً صالِحاً، ومُنتجاً المعرفة، وشريكاً في بناء الحضارة الإنسانيّة الحديثة، إلى جعْله مرتقياً بلغته الأمّ إلى أسمى المراتِب وأرقاها بين لُغات الأُمم والشعوب الحيّة. ولمّا كان التعليم معبرَ الشعوب الإجباريّ إلى التقدّم والرقيّ، ولمّا كان تعليم اللّغات الحيّة أهمّ المَعابر إلى هذا التقدّم، بحسب الفيلسوف فيكو، فقد استلزم أن يتصدّى المعنيّون بتعليم اللّغة العربية وتعلّمها للعديد من التحدّيات المتحصّلة من انخراط جمهورها العريض (طلّاباً ومعلّمين ومعلّمات وإداريّين ومنظّرين…إلخ) في مسار الحداثة الهادِر والعصيّ على الارتداد. ومن أهمّ هذه التحدّيات:
*تكريس اللّغة العربية لغةً– أمّاً لها الأوّليّة: لا عجب في إطلاق هذا التحدّي، ما دمنا نرى دولاً عربية تتعامل بخفّة مع لغتها العربية الرسمية، وتغضّ النظر عن إيثار اللّغة الأجنبية حتّى في دوائرها الرسمية، وفي مدارسها، وصفوفها التي تعلَّم فيها اللّغة العربية. وهذا الأمر يتطلّب تعديلاً في السياسات التعليمية التي تتّبعها الحكومات لمصلحة اللّغة العربية، لغة الضادّ والدوائر الرسمية والمداولات الرسمية (الديوانية) والعقود وغيرها ممّا يستوجب تعديلاً آخر في مواد تعليم اللّغة العربية في المَدارس.
*استثمار العلوم الإنسانيّة الحديثة في تعليم العربيّة: نظراً لظهور علوم إنسانية حديثة ومُعاصرة في الغرب، بعد النصف الأوّل من القرن العشرين، من مثل عِلم اللّسانيّات الحديث، وعِلم النفس، وعِلم نفس التعلّم، وعِلم التَّداوليّة، وعِلم التواصليّة، فضلاً عن العلوم التربويّة المختلفة الدّاخلة في العملية التعليميّة– التعلّمية، فقد وجب أن ينظر معلّمو اللّغة العربية ومعلّماتها، والمعنيّون بتنظيم تعليم العربية وتعلّمها، إلى استثمار هذه العلوم البَيْنيّة (المُتداخِلة) في ما يُدعى باللّغة الأجنبية، أي الاتّجاه الدّامِج ما بين هذه المَيادين المُتقاطِعة والمُتداخِلة (INTERDISCIPLINARITE) بغية تفعيل العمليّة التعليميّة – التعلّمية، باعتبار أنّ موضوع التعليم، عنينا به “المتعلّم “متعدّد الأبعاد” على حدّ قول إدغار موران، إذ يصف كلّ ظاهرة، فكيف بالمتعلّم؟ وهذا الأمر يوجِب على التربويّين في بلادنا، ومقرّري السياسات التربويّة بالأَولى، العمل على إنفاذ هذه العلوم المُضيئة جوانب أساسيّة في العمليّة التعليميّة– التعلّمية، والنأي عن أحاديّة العلوم التقليديّة ومعياريّتها غير الناجعتَين.
*تحديث مَناهج اللّغة العربيّة: ومن قبيل الانسجام مع الحداثة ومُواكَبةً للعصر، يحسن بالمعنيّين بتعليم اللّغة العربية وواضعي سياساتها أن يعملوا على تحديث مناهج اللّغة العربية باتّجاه المزيد من التبسيط والتيسير، وباتّجاه الإقرار بالمكانة المحورية للمتعلّم، ولزوم إشراكه في بناء معارفه ومواقفه وقدراته ومهاراته وكفاياته. بيد أنّ هذا التحديث في المناهج، والذي انخرطت فيه بعض الدول العربية، لن يؤتي ثماره إنْ لم يُرافقه إعدادٌ للمعلّمين وفقاً لأحدث النظريّات التربويّة، ولاسيّما المُقارَبة التعلّمية التي ترى إلى العمليّة التعليميّة– التعلّمية من منظارٍ مُتكامِل يقوم على أربعة أركان: المتعلِّم، والمعلِّم، والمَعارف، والوضعيّات التعلّمية.
*المُصالَحة بين العامّية والفصحى: من التحدّيات التي ينبغي للمعنيِّين بتعليم اللّغة العربية في بلادنا أن يرفعوها ويضعوا حلولاً للمُشكلات المُتعاظِمة في وجه تعليمها، إجراء المُصالَحة بين العربية الفصحى والعامّية أو العامّيات المُتداوَلة في كلّ بلد على حدة، ليس لترجيح العامّية على الفصحى في التفاعلات الكلامية بين المعلّم(ة) والمتعلّمين داخل الصفّ، ولكن من أجل كسر حدّة الافتراق بل الاغتراب الحاصلَين بين مظهرَي اللّغة العربية الواحدة.. وهذا الأمر يتطلّب بدَوره المزيد من الدراسات الميدانية والأبحاث النظرية، في عِلم نفس التعلّم وعِلم نفس اللّغة وعِلم الأصواتيّات وغيرها، من أجل إيجاد الصيغة الأكثر تناسباً مع البلد العربيّ المعنيّ وأُطره التعليمية والثقافية المعمول بها إلى حينه.
*التداوُل بالفصحى الميسَّرة: ولعلّ مسألة التداوُل الكلامي بين المعلّم (ة) والمتعلّمين شكّلت ما يشبه المعضلة، ولا تزال، بين سائر المعنيّين بالعملية التعليمية– التعلّمية ممَّن يعنون بتعليم اللّغة العربية وتعلّمها؛ ذلك أنّ غالبية الدراسات التي تتناول هذه المشكلة (أنظر علي مدكور، 2006) تشير إلى الدَّور الأساسي للمعلِّم، سلباً أو إيجاباً، في تقريب أفهام المتعلّمين من الفصحى، وجعْلهم يأنسون أصواتها وتراكيبها (راجع أنطوان صيّاح،2008)، وفي تحفيزهم على إنتاج نصوص شفهيّة ميسّرة، يعبّرون فيها عن أنفسهم، ويتواصلون بها مع الآخرين، داخل الصفّ، بلغةٍ عربيّة سليمة، انطلاقاً من أنّ مبدأ المُحاكاة، أي تقليد المتعلّم معلّمه في ما يباشره من مُداخلات بالعربية الفصحى المبسّطة، هي ما يمهّد له السبيل الى إنتاج نصوص مطّردة في بنائها، والانخراط المريح في تعلّم لغته الأمّ، واكتساب المَعارف والكفايات منهما.
*إحداث النقلة من التلقّي إلى الإنتاج والإبداع: ومن التحدّيات الكبرى أن يسعى المعنيّون بالتعليم، وجميع الفاعلين فيه (معلّمون ومعلّمات، مدراء، منسّقون، منظّرون تربويّون، علماء لغة وتواصل،..) إلى رفْع سقف التطلّب في مدارسنا ومعاهدنا بأحسن ممّا يدعو إليه المنهج، وعنيتُ تحويل تعليم اللّغة العربية وتعلّمها من مجرّد تلقّي المَعارف والعمل على ترجمتها في تمارين يوميّة ودروس يُقصد منها إكساب المتعلّمين كفايات أوّلية، مثل معرفة القراءة والكتابة والتواصل الفعّال والصحيح، إلى إنتاج نصوص شفهيّة وكتابيّة يبلغ بها الطلّاب درجات من الإتقان والجودة، تصل حدّ الإبداع الذي يطمئنّ فيه الباحث إلى قدرة الأجيال الجديدة على مُواصَلة الإبداع شعراً ونثراً ومسرحاً واختراعاً وإغناء التراث الإنساني بكلّ مَظهر خَير وجمال وحقّ.
*مُواكَبة العَولَمة والاستجابة لمتطلّباتها: لن تتيح لنا هذه العجالة أن نذكر المؤتمرات العديدة التي عُقدت في الدول العربية تحت عنوان “العَوْلَمة”، والتي تُعالِج في مجملها المظاهر المتّصلة بتعليم اللّغة العربية، والمرتبطة بكيفيّة تعليمها، ولاسيّما اعتماد الآليّات الحديثة والعصرية في تعليم اللّغة العربية وتعلّمها، وعنيتُ بها الكومبيوتر والإنترنت ومَواقع التواصل الاجتماعي ودَورها في نقل المَعارف وتبسيطها وفي تعميم ذائقات مُتفاوِتة في قيمتها وارتباطها بالتراث العربي المَعنيّ. ولعلّ هذا التحدّي الضّاغط يوجِب على المعنيّين التعاطي معه بالكثير من الجدّية من أجل بلوغ صيَغ أكثر تطلّباً وفاعليّة تكون قَيد التقويم المُتواصِل ومرتبطة بمناهج اللّغة العربية المعمول بها في البلدان المَعنيّة.
*الترجمة ومَفاعيلها الإيجابيّة: ما عسانا نقول عن تحدّي الترجمة من اللّغات الأجنبيّة إلى العربية ومنها إلى لغات العالَم وأفضالها على اللّغة – الأمّ؟ في الواقع، لا نجافي الحقيقة لو اعتبرنا أنّها تستحقّ أن يكون لها وزارة تُعنى بنقل تراث العصر العِلمي والأدبي إلى لغتنا العربية وبناقليه، أي المُترجِمين، لأنّهم جسر العبور، بحيث تُنقل المَعارف المُكتشَفة حديثاً في ميادينها، وبمصطلحاتها الجديدة إلى جمهور المتعلّمين والقارِئين.
*المَناهج ولزوم تعديلها: وفي تحدٍّ أخير وليس آخراً، لا بدّ أن يُسارِع المعنيّون في بلادنا إلى تعديل المَناهج، ولاسيّما منهج اللّغة العربية، بحيث يصير أكثر مُلاءَمة للتجديد والتحديث، وأكثر دفعاً للمتعلّمين إلى تعلّم اللّغة العربية والتواصل والإبداع بها حتّى الافتتان، بحسب الصحافي سمير عطا الله.
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)