المساعدات الخارجية… هكذا تركّع الدول «النامية»
كتاب «أوهام انتقال المعرفة – نفوذ خبراء المساعدات الخارجية وتأثيرهم في عملية صنع القرارالسياسي في جنوب إفريقيا وتنزانيا»
(The Delusion of Knowledge Transfer – The Impact of Foreign Aid Experts on Policy-making in South Africa and Tanzania. african minds 2016) مهم لنا أيضاً لأنه يتعلق بما يسمى المساعدات الخارجية أو الدعم التنموي الذي تقدمه [تفرضه!؟] الدول المصنعة الغربية الاستعمارية، وحتى الشرقية، المسماة الدول المانحة، على الدول «النامية». فمن المعروف أن الدول المصنعة تفرض على الدول المستلمة المساعدات ـــ مع تحفظنا على هذا المصطلح لأن المساعدة تكون مجانية لا مرفقة بإملاءات وشروط ــــ قبول خطط خبرائها [!] لإعادة بنية الاقتصاد الوطني، كي تكون أهداف المعونات دائمة.
قبل الانتقال إلى التطبيق، وهو أفضل كشاف عن مدى صلاحية نصائح «خبراء» الدول المانحة، من المفيد أولاً وقبل كل شيء تذكر ضرورة الحذر في فهم المصطلحات الأجنبية المستعملة ذلك أن reform التي عادة ما تترجم في وسائل الإعلام والتضليل إلى «إصلاحات» غير دقيقة وتعطي انطباعاً مختلفاً عن هدفها، ألا وهو إعادة توزيع الثروة الوطنية والعائدات، من أسفل إلى أعلى. الترجمة الدقيقة، في ظني، هي «إعادة هيكلة».
بالعودة إلى مدى صلاحية نصائح أولئك الخبراء، الحقيقيين أو الوهميين، هل يعكس الواقع المعاش صحتها، أم أن النتيجة مختلفة؟!.
اخترنا هذا المؤلف الصادر في جنوب إفريقيا ويتناول سياسات خبراء الدول المصنعة المانحة وتوجهاتها ومن ثم نتائجها، مع التركيز على تطبيقين عمليين في جنوب إفريقيا وتنزانيا.
الواقع يقول إن نصائح أولئك الخبراء، أدت إلى اعتماد الدول النامية المستلمة للمساعدات على الدول المصنعة المانحة، بما يعني فقدانها استقلالها. بل وجب القول إن نصائح خبراء الدول المانحة تنطلق من سياسات بلادهم ومصالحها، ودورهم يكمن في فرضها على الدول النامية.
ثمة شهادات على عقم سياسات الخبراء ونصائحهم، تأتي من الجهات المانحة، بل حتى من أعلى المناصب في المؤسسات المانحة. على سبيل المثال، كتب وليم إيسترلي، الذي كان من خبراء الاقتصاد في البنك الدولي، مؤلفاً عام 2013 عنوانه، بالعربية «بطش الخبراء: الاقتصاديون والدكتاتوريون وحقوق الفقراء المنسية» The Tyranny of Experts: Economists, Dictators, and the Forgotten Rights of the Poor. الخبير الاقتصادي السابق وأستاذ الاقتصاد في «جامعة نيويورك» حالياً، شجب وكالات المساعدة (aid agencies) واستهجن تمسكها بما يسمى «الوهم التكنوقراطي» الذي يدعي أن الخبراء قادرون على حل مشاكل العالم السائر في طريق النمو. من منظوره، فإن نصائح الخبراء ساهمت في إجحاف الفقراء وليس تحريرهم من قيود الفقر.
أما الخبير الاقتصادي الأميركي وأستاذ الاقتصاد في جامعة ولاية واشنطن، فحذر في وقت مبكر، وتحديداً في عام 1968 من أن المساعدات التقنية الخارجية عقيمة. والرأي ذاته كرره رتشرد جُلّي الذي كان مساعد الأمين العام للأمم المتحدة، عام 1989.
إذ أكد أن معظم خبراء المساعدات الخارجية ونصائحهم ما عادت ذات قيمة. أخيراً، وصف نائب رئيس البنك الدول لشؤون إفريقيا، إدوَرد جِكُكس، الاستعانة بالخبراء بأنها قوة نابذة منهجية تدميرية تعطل أهلية التطور في إفريقيا. هذا وغيرها من الانتقادات أجبرت بعض منظمات الإعانة، كما تسمى، على توكيل مؤسسات متخصصة للبحث في مدى صحتها. على سبيل المثال، وصلت وزارة الخارجية النروجية عام 1994 إلى استنتاج أن التعاون التقني لم ينتج المقدرات الوطنية اللازمة للاعتماد على الذات.
المشكلة ــ دوماً وفق المؤلف ـــ لا تكمن في بناء المقدرات وكيفية تطبيق النصائح والإرشادات، كما تدعي مؤسسات الجهات المانحة، وإنما في الجوهر. يقول المؤلف إنّ المشكلة جذرية، متصلة بتعقد بنية المعرفة العائدة لانتقال المعرفة إلى «الديمقراطيات الناشئة». وهذه بدورها مرتبطة بشرعية المستلمين ومدى سيادتهم واستقلالهم.
انطلاقاً من الحقائق والمشكلات آنفة الذكر، التي أوردها المؤلِّف مدخلاً، فإن مهمته تكمن في تبيان مدى تعقد نصائح الخبراء ضمن مجال المساعدات، وتالياً تقويم أثرها في عملية صنع القرار السياسي.
وحتى يكتسب البحث طبيعة تطبيقية، فقد أجرت الكاتبة والكاتب أبحاثاً تجريبية في كل من جنوب إفريقيا وتنزانيا، وهما الدولتان الإفريقيتان اللتان تسلمتا مساعدات سخية قدمت لمختلف مجالات عمل الحكومة.
أبحاث هذا المؤلف تركز على مجالات التربية والتعليم والصحة والبيئة، لأنها جميعها، تحظى باهتمام حكومتي الدولتين ولأن المؤسسات المانحة توليها أهمية خاصة. أخيراً، لأن هذه المجالات تعتمد اعتماداً رئيساً على دراية مختلف أوجه المهارات التي تستخدم برهاناً لصحة السياسات المتبعة. السبب الآخر الذي دفع الكاتبة والكاتب إلى اختيار هاتين الدولتين كونهما «ديمقراطيتين» ناشئتين لكنهما مختلفتان من ناحية قوة اقتصادهما.
انطلاقاً من النقاط آنفة الذكر، فقد بني المؤلف، الذي يحوي عشرين جدولاً وسبعة رسوم مصورات، على النحو الآتي:
الفصل الأول «انتقال المعرفة إلى الديمقراطيات الناشئة – مسائل الشرعية، والسيادة والفاعلية» يشكل الإطار النظري. أكد الكاتبان أن أرضية عملهما تنطلق من نظرية الديمقراطية ومن سوسيولوجيا العِلم، ما يمنح الباحث منظوراً استثنائياً للمشكلات المستترة في عملية انتقال المعارف من الدول الغربية إلى دول الجنوب، دوماً وفق تعبيرات المؤلف. في الفصل الثاني «تقويم عالَم المساعدات التنموية – خطة الدراسة والعمل الحقلي»، منح الكاتبان القراء مدخلاً إلى كل من جنوب إفريقيا وتنزانيا بصفتهما حيز الاستقصاء. أما الفصل الثالث «جنوب افريقيا وتنزانيا – صنفان من «محبوبي الدول المانحة»، فهو مخصص لوصف منهجية البحث. وحمل الفصل الرابع عنوان «فاعلون عديدون، مصالح متضاربة – اللاعبون الأساس في لعبة المعونة»، فيما يوضح الفصل الخامس «تشابك الخبراء في سياق الدعم» الروابط بين المساعدة والسياسة. ويركز ضمن أمور أخرى على الصدع في البنية المتصلة باعتماد الخبراء.
الفصلان السادس والسابع يشرحان أسباب إخفاق النصائح التي يقدمها الخبراء ضمن إطار المساعدات الخارجية في تحقيق الأهداف الرئيسة، المعلنة طبعاً، وهي رفع قدرات الدول الحاصلة على المساعدات بما يمنحها إمكانية الاستغناء عنها. هذا يؤدي إلى زيادة اعتماد الدول الحاصلة على المساعدات على الدول المانحة وعلى توجيهات الخبراء. كما يتم تحليل الشروط التي تؤدي إلى دفاع الدول الحاصلة على المساعدات عن سياساتها.
يسهب الفصلان في استعراض الأحوال في كل من جنوب إفريقيا وتنزانيا، وكذلك العوامل الداخلة في كيفية التعامل مع نصائح الخبراء الأجانب وهي الموارد المالية والقدرات الإدارية وقواعد المعرفة العلمية.
يلاحظ الفصل السادس نقاط التباين بين البلدين وكذلك بين القطاعات في كل من البلدين، وتركز ست دراسات على مدى تمكن كل منهما، كونهما من الحاصلين على المساعدات، على الحفاظ على استقلالية قرارتهما بالخصوص.
أما الفصل السابع، فيتعامل على نحو تفصيلي مع التحديات الناشئة من كل قطاع اقتصادي ومعه، بما في ذلك تقديم مقترحات إصلاحية.
أخيراً، خصص الكاتبان الفصل الثامن للحديث في النتائج التي توصلا إليها.
صحيفة الأخيار اللبنانية