عالم اجتماع مصري: المؤسسات الدينية جزء حيوي من الحياة الاقتصادية
يرى أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب، جامعة الإسكندرية د. هاني خميس عبده أن المتأمل للعلاقة بين النسق السياسي “الدولة كمؤسسة حديثة” والنسق الديني “المؤسسات الدينية، ورجال الدين” في العصر الحديث يمكن أن يلحظ أنها علاقة لا تظهر فيها ثنائيات العلماني والمقدس، أو التقليد والحداثة، ولكن تظهر فيها ملامح علاقة لها طابع خاص تقوم على مظاهر التكيف والتعايش المتبادل من ناحية، والرفض والصراع من ناحية أخرى.
فالخطاب الديني – الذي يشكل أحد مخرجات المؤسسات الدينية ورجال الدين – يتعايش مع الحداثة عندما يحاول أن يقدم أدلة شرعية على السياسات الحديثة للدولة، وعندما يحاول أن يجد للصيغ الحديثة جذورًا في الفكر الديني، فكثيرًا ما يسعى الخطاب الديني جاهدًا إلى إضفاء الطابع الديني على العديد من مخرجات الحداثة وخاصة في المجالات السياسية والاقتصادية.
ويقول في دراسته “المؤسسات الدينية والحياة الاقتصادية في المجتمع المصري، دراسة سوسيولوجية”، الصادرة عن وحدة الدراسات المستقبلية بمكتبة الإسكندرية، “يظهر ذلك في السعي الدءوب من جانب الخطاب الديني نحو البحث عن الأصول الدينية لمختلف الأيديولوجيات الحديثة “الاشتراكية، والليبرالية، والقومية”، ولمختلف المفاهيم الحداثية “الحرية، والمساواة، والديمقراطية”، ولمختلف النظم الاقتصادية الحداثية “الادخار، والاستثمار، والإنتاج”.
كما يتأسس موقف الخطاب الديني إما على موقف دفاعي عندما يميل الخطاب الديني نحو خلق مقابلة بين ما هو ديني وما هو حداثي، وإما على موقف الرفض الذي ينكر على الحضارة العربية ملكيتها لهذه المخرجات الحداثية.
ويؤكد د. عبده أن جميع المؤسسات الدينية قد تتعرض لاختبار صعب لا يمكن اجتنابه وهي في سبيلها لتشكيل السلوك الإنساني استنادًا للعقيدة الدينية أو المبادئ الأخلاقية. وأعني بذلك أنه لكي تؤثر هذه المؤسسات الدينية في المجتمع الإنساني عليها أن تزيد من طاقة تأثيرها من خلال جذب بعض الأشخاص ذوي المكانة والقوة في المجتمع.
ومن ناحية ثانية ثمة إشكالية تتعلق بالأهداف الأخلاقية للتنظيمات الدينية والتي عادةً ما تكون غير متلازمة مع الأهداف المتفق عليها للمجتمع وأنظمته المختلفة، وبمعنى آخر قد يكون هناك صراع أساسي قائم بين الاهتمامات الدينية والمجتمع الدنيوي، ولذلك قد تستطيع تلك المؤسسات أن تواجه هذا الموقف من خلال طريقين، أحدهما أنها تحاول تخليص أعضائها من العالم المليء بالشرور عن طريق الانسحاب منه قدر الإمكان، وقد يؤدي هذا الانسحاب إلى ضعف التأثير الذي قد تمارسه على المجتمع، وثانيهما يتمثل في الانشغال في معركة حقيقية مع عالم الحياة اليومية من أجل التغيير”.
ويضيف “تظهر أحيانًا مواقف متأزمة في الحياة الاقتصادية للمجتمع؛ فأي ظرف يحول دون أن يحقق الإنسان ما يعتبره معيشة ملائمة هو في الحقيقة إحباط، كما أن التغير الاقتصادي الهائل الذي يهدد طريقته في الحياة يعدّ أزمة. في هذا الصدد عندما يُوَاجَه الإنسان باحتياجات ذات طابع اقتصادي فإنه يستدعي الدين لتحقيقها، فالدين يساعد الإنسان على مواجهة هذه الإحباطات والأزمات. فعلى سبيل المثال تتمثل الجهود التي تبذل لمواجهة احتياجات البشر في الأزمات الاقتصادية في تأسيس ودعم مشروعات الإحسان، والأعمال الخيرية، وجمع التبرعات، كما في ذلك نشاطات رفع الدخل بصورة أو بأخرى، وبالإضافة إلى ذلك يقدم الدين وسائل توافقية لتصحيح أسباب الإحباطات والأزمات الاقتصادية فالمقوم الأعظم للنجاح الاقتصادي هو التفكير الإيجابي والاعتماد على الله”.
وحول وظائف الدين في المجال الاقتصادي يشير عبده إلى أن ذلك يتضح إذا ما حاولنا الاعتماد على التفكير الاستنباطي، أي محاولة تطبيق القانون العام على الجزئيات، أي الانتقال من العام إلى الخاص وذلك في دراسة دور الدين في الاقتصاد، وأقصد بذلك التعرف على الرؤى السيسولوجية التي طرحت حول دراسة العلاقة بين الدين والاقتصاد من خلال أطروحة عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر والتي تتركز حول دراسة العلاقة بين الرأسمالية والأخلاقيات البروتستانتية.
ويشير إلى “الوقف” كمظهر من مظاهر العلاقة بين الدين الإسلامي والاقتصاد، فالوقف هبة يقدرها أي شخص مؤمن قادر عليها. وكلمة “الوقف” اختصار لمفهوم الصدقة الموقوفة، وهو ما يشير إلى شيء أقرب إلى مفهوم “الصدقة الجارية”، أي توافر مصدر دائم في فعل الخير من أجل التقرب إلى الله، وإن كان الواقع يكشف عن أن الذي يقدمها هم الحكام، وأعضاء النخب الاقتصادية، والبيروقراطية والسياسية. وقد كان الوقف أكبر مصدر لتمويل الخدمات العامة، وهكذا يمكن القول إن الوقف يمثل البنية التحتية المالية التي تؤمن تحقيق الصالح العام. فالوقف مؤسسة مستقلة بذاتها، ومن ثم فقد حافظت على قدر كبير من النمو، والمرونة في استخدام الموارد لتحقيق غاياتها النظامية. وعلى الرغم من أن الوقف لم يستطع أن يوفر ضمانات لحماية سوء استخدام الموارد وانحرافها عن تحقيق أهدافها النظامية، فإن تنظيم الوقف عبر القانون المدني قد ضمن مستوى من المرونة.
ويلفت د. عبده إلى إن العلاقة بين المؤسسات الدينية والمجال الاقتصادي داخل المجتمع المصري لها بعد تاريخي من خلال استخدام النظام السياسي للدين داخل النشاط الاقتصادي؛ فعلى سبيل المثال سعى ضباط مجلس قيادة ثورة 23 يوليو 1952 إلى حشد العاطفة الدينية الشعبية، ومحاولة إعادة إنتاج شرعية دينية من خلال توجيه الخطب الدينية، وتوظيف الشخصيات الدينية للتأكيد على الاتساق بين الإسلام والسياسات الاشتراكية التي تتبناها الدولة في ذلك الحين.
وبعد ثورة 1952 حاول أغلب شيوخ مؤسسة الأزهر تطويع رأي الدين لخدمة السياسات السائدة؛ حيث أفتى الشيخ محمود شلتوت (1959 – 1963) أن “القوانين الاشتراكية لا تتعارض مع الإسلام”. كما سار الشيخ حسن مأمون (1964 – 1969) على الدرب نفسه، وكان من أبرز المدافعين عن القوانين الاشتراكية.
كما أكد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر على أن الإسلام دين التقدم الاجتماعي والحرية بل والاشتراكية، وهاجم بعض القيم التقليدية؛ مثل الصبر، وعمل على تعبئة المؤسسات التي كانت تقود الدولة لتقديم الحجج تأييدًا لموقفه السياسي والاجتماعي.
ونرى على سبيل المثال الشيخ إبراهيم اللبان – عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر – يقدم في مؤتمر معهد أبحاث الأزهر عام 1964 دراسة بعنوان “حق الفقراء في أموال الأغنياء”؛ حيث عاد إلى رأي ابن حزم القائل إنه إذا لم تكف الزكاة احتياجات الفقراء، حق للحاكم أن يأخذ من الأغنياء ما هو ضروري لذلك. كما أقام الاتحاد الاشتراكي آنذاك مكتبًا خاصًّا للشئون الدينية لتنظيم حملات عن الإسلام والاشتراكية.
ويضيف أنه على النقيض مما سبق قام أنصار الرئيس الأسبق محمد أنور السادات بإطلاق حملة ضد اليسار، اشترك فيها علماء الدين الذين أصدروا سلسلة من الفتاوى الدينية التي ساوت بين الشيوعية والفسوق، واتهمت الشيوعيين بأنهم كفرة، فعلى سبيل المثال قام الدكتور محمد الفحام الذي تولى مشيخة الأزهر في الفترة من (1969 – 1973) بالانقضاض على الاشتراكية بمقتضى ما أسماها السادات ثورة التصحيح عام 1971 بوصفها “خطوة تأتي من أجل كفالة الحريات للوطن والمواطنين، وسيادة القانون وبناء دولة جديدة”.
كما أيد شيخ الأزهر الدكتور عبدالحليم محمود (1973 – 1978) موقف السادات من القوى اليسارية بعد أحداث 17 و18 يناير 1977، ووصف الشيوعيين بأنهم “ملحدون لا ينتمون إلى جماعة المسلمين”.
وعلى الجانب الآخر أبرز الباحث دور رجال الدين داخل هذا المجال الاقتصادي، فعلى سبيل المثال في أوائل القرن العشرين كان الشيخ محمد عبده يدعو إلى اقتصار المهام الاقتصادية للدولة على نطاق ضيق، وحث الأغنياء على العمل في الأنشطة الاقتصادية، ولقد كان موقفه نذيرًا بصعود مجموعة “طلعت حرب” إلى الأعمال المصرفية والصناعية. كما وافق ابن تيمية على فرض التسعير في الأسواق، بالإضافة إلى إباحة كلٍّ من الأفغاني ومحمد عبده، ورشيد رضا، الحصول على فوائد من إيداع الأموال في حسابات الادخار، والتعاملات المصرفية.
وبالإضافة إلى ما سبق كانت هناك مواقف متباينة من جانب مؤسسة الأزهر تجاه الفوائد المصرفية، فعلى سبيل المثال عارض شيخ الأزهر جاد الحق علي جاد الحق (1982- 1996) الفوائد المصرفية، وعلى النقيض كان الشيخ محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر (1996- 2010) داعمًا لموقف الحكومة من الفوائد المصرفية.
كما تضمنت وثيقة الأزهر حول مستقبل مصر (رجب 1432هـ – يونيو 2011) التأكيد في المبدأ الثامن على أهمية “إعمال فقه الأولويات في تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية، والقضاء على البطالة، وبما يفجر طاقات المجتمع وإبداعاته في الجوانب الاقتصادية والبرامج الاجتماعية”. وربما يشكل ذلك تأكيدًا للعلاقة بين المؤسسات الدينية الرسمية والمجال الاقتصادي داخل المجتمع المصري.
ويبين د. عبده أن العلاقة بين النسق السياسي “الدولة كمؤسسة حديثة” والنسق الديني “المؤسسات الدينية، ورجال الدين” في العصر الحديث، هي علاقة لها طابع خاص، تقوم على مظاهر التكيف والتعايش المتبادل من ناحية، والرفض والصراع من ناحية أخرى. فالخطاب الديني يتعايش مع الحداثة عندما يحاول أن يقدم أدلة شرعية على السياسات الحديثة للدولة، وعندما يحاول أن يجد للصيغ الحديثة جذورًا في الفكر الديني، فكثيرًا ما يسعى الخطاب الديني جاهدًا إلى إضفاء الطابع الديني على العديد من مخرجات الحداثة وخاصة في المجالات السياسية والاقتصادية.
كما يتأسس موقف الخطاب الديني إما على موقف دفاعي عندما يميل الخطاب الديني نحو خلق مقابلة بين ما هو ديني وما هو حداثي، وإما على موقف الرفض الذي ينكر على الحضارة العربية ملكيتها لهذه المخرجات الحداثية.
ويتطرق إلى عدد من الوظائف التي يمكن أن يقوم بها الدين في المجال الاقتصادي؛ ومنها على سبيل المثال الندرة الاقتصادية؛ فعندما تكون بعض الأغراض نادرة أو عندما يصعب الحصول على عمل، يكون الدين مشاركًا أو متضمنًا في هذه المشكلات، ففي المجتمعات التي يتناقص فيها فائض الغذاء، يكون الدعم والإمداد الديني للجهود العلمية التي تبذل لضمان توفير الغذاء أكثر ارتباطًا بالثقافة.
كما يلعب الدين دورًا في الأزمات والإحباطات الاقتصادية؛ فالدين يساعد الإنسان على مواجهة هذه الإحباطات والأزمات من خلال عدد من الجهود مثل تأسيس ودعم مشروعات الإحسان، والأعمال الخيرية، وجمع التبرعات، وغيرها.
ويلقي الباحث الضوء على نماذج مختارة ومحددة لدراسة ملامح العلاقة بين المؤسسات الدينية والمجال الاقتصادي؛ أولها عمليات البيع والشراء؛ كالصكوك الإسلامية، وتداول الأسهم في البورصة، وأيضًا التلاعب بأسعار العملات النقدية الأجنبية؛ حيث أصدر الأزهر الشريف بيانًا رسميًّا موضحًا فيه أن تلاعب بعض الأفراد بسعر الجنيه المصري مقابل الدولار يعد من أكل أموال الناس بالباطل، وارتفاع أسعار السلع والخدمات؛ حيث استنكر علماء الأزهر الشريف ارتفاع الأسعار للسلع والخدمات، وجشع التجار واحتكارهم للسلع.
أما المحور الثاني فيتمثل في جمع التبرعات؛ فقد شكل جمع التبرعات أحد العمليات الاقتصادية التي برز فيها دور المؤسسات الدينية الرسمية من خلال صندوق تحيا مصر، وإسهام تلك المؤسسات أثناء حدوث الأزمات والكوارث الطبيعية.
ويركز المحور الثالث على دعم المؤسسات الدينية للأنشطة الاقتصادية “مؤتمر دعم وتنمية الاقتصاد المصري” والمشروعات القومية “قناة السويس الجديدة”.
ويستنتج د. عبده أن العلاقة بين النسق الديني والمجال الاقتصادي لها بعد تاريخي من خلال استعانة النظام السياسي بالمؤسسات الدينية؛ من أجل دعم السياسات الاقتصادية والتنموية داخل المجتمع المصري.
كما أبرزت الدراسة أن ثمة حضورًا دينيًّا داخل المجال الاقتصادي في المجتمع المصري. كما ظهر الحضور الرمزي للنسق الديني من خلال عضوية شيخ الأزهر، والبابا تواضروس في مجلس أمناء صندوق تحيا مصر.
ميدل ايست أونلاين