ثمن الغوطة
كلما سمعت الأخبار عن الغوطة الشرقية و ما نتعرض له من خراب أتذكر ما قرأته ذات يوم في كتاب ( خطط الشام ) للأستاذ الكبير ” محمد كرد علي ” عن أهمية الغوطة ليس كمسرح للطبيعة الخلابة فحسب بل كمصدر ثري جدا بالثروة المادية الطافحة التي يوفرها موسم حصاد وجني الحبوب و الفواكه و الخضر المتنوعة من محاصيلها كتربة خصبة كما يصفها ” نعمان أفندي قساطلي” في كتابه الطريف ( الروضة الغناء في دمشق الفيحاء) إذ يقول:
( وقد فاق فلاحو الغوطة جميع السوريين في زراعتهم الأرض الواحدة في السنة مرارا و ذلك لكثرة الجد و جودة التربة و غزارة المياه و مناسبة الفصول بمحاصيلها ا، الحنطة والشعير و الباقياء و الفصة و اللوبياء و الباميا و الشمر و اليانسون و العصفر و القنب و البندورة و الباذنجان الأسود و الكرنب و القرنبيط و الملفوف و اللفت و الشوندر و البصل و الفجل و الكراث و الثوم و القلقاس و الرشاد و الأرضي شوكي و البطاطا و الخيار و القثاء و الكوسا و البطيخ بأنواعه و السلق ، و أشجارها كثيرة ذات منظر بهي و المثمرة منها كالمشمش بأنواعه و التفاح و التوت و الخوخ و الدراق و اللوز و القراصة و الجوز و الكمثري و السفرجل و الرمان و الزيتون بأنواعه و الكرم بأنواعه و الأس و التين و الزعبوب و الليمون إلى غير ذلك من الأشجارالمثمرة و غير المثمرة …).
هكذا تقول كتب التاريخ عن دمشق و غوطتها و ما أكثرها و أغناها و على الأخص حين تقول هذه الكتب أن ثروات الغوطة هي التي كانت تساعد دوما إلى حد كبير على إعادة إعمار دمشق بعد الكوارث التي كانت تتعرض لها من زلازل و حرائق و غزوات و تخريب و تدمير..
هذه دمشق اليوم لم تتعرض حتى الأن كما يبدو للدمار الذي أنزله مثلا تيمورلنك بالمدينة ، أو للزلازل الكبرى التي تعددت أو الحرائق الهائلة التي أصابتها كما تروي تلك الكتب إلا من حراب محدودة في الضواحي و بعض الأحياء القريبة من الغوطة أو تقع فيها ، و هذا يعني أن الغوطة التي يقضى عليها الآن صارت عاجزة عن المساعدة في إعمار تلك الضواحي و الأحياء ، وأن على دمشق وأهلها وحكوماتها المقبلة أن ترد الجميل الكبير للغوطة التي فقدت قدراتها القديمة على إعادة عمرانها وإعادة الأشجار والأعشاب التي احترقت والبشرالذين هاجروا أو دفنوا تحت أنقاضها..من منا لا يدمى قلبه حين يتذكر النزهات الرائعة التي حولها التكرار عبر الزمن إلى تقاليد خالدة وخارقة البهجة والجمال والأنس وخاصة في أيام الجمعة و العطلات والأعياد حين كان يتدفق سكان دمشق على غوطتها كي يقضوا نهارهم على العشب و تحت الشجر يأكلون و يلعبون و يتعارفون …
هذا هو الثمن الفادح الذي سيدفعه الجهلة والطغاة على تنظيف التاريخ المعاصر من أوساخه لإعادة دمشق أجمل وأقدم مدينة في التاريخ إلى مكانتها المفقودة !!…