التهكم آلية إصلاح بديلة عن آلية إغراق المتفرج والبطل معا، في مشاعر الأسى والندم المشحونة بالبكاء.
يأتي هذا الكتاب “صدمة الابتذال.. قراءة في نظرية الملهاة التهكمية” بالإضافة إلى ترجمة لنص “تتمسكن حتى تتمكن” لأوليفر جولد سميث، أحد حلقات مشروع كبير للناقد والمترجم د. سيد الإمام، يعني بدراسة نظريات الدراما التي رافقت صعود ونمو البرجوازية الأوروبية منذ ضخت جانبا من رأس مالها في الصناعة إلى أن هيمنت على المجالات الاقتصادية جملة، وأرادت أن تلتهم الكعكة السياسية وتنتزعها من فم الطبقة الارستقراطية بالثورة عليها في الربع الأخير من القرن الثامن عشر.
قدم د. سيد الإمام قبل هذا الكتاب كتابه “الفضيلة الغائبة” الذي عني بدراسة ثلاث من نظريات الدراما في النص الأول من القرن الثامن عشر، ليجئ هذا الكتاب “صدمة الابتذال” الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، ليعني بالملهاة التهكمية ويؤسس لها جماليا وفلسفيا دون أن يغفل السياق الاجتماعي والاقتصادي. كاشفا عن تأثرات المجتمع الأوروبي بمرحلة التحول الصناعي، حيث وفقا للمؤلف “تشكلت شرائح عديدة وثيقة الصلة بأصحاب رؤوس الأموال تتبنى مصالحهم، وتروج لأفكارهم وقيمهم وتبررها، وتدافع عنها، بل تنتحلها وتتمثلها في نمط حياتها. وهكذا تجلت كلية اجتماعية لا يخطئها الوعي، حتى وإن حاول نقدها والتحذير مما يتراءى له بوصفه تداعياتها السلبية”.
وتناول كتاب الملهاة التهكمية في انجلترا وفرنسا أولا تجربة الحياة والتقاليد الفنية والفكرية، وثانيا المشروع الإبداعي لكل منهم، وهم: بيير كاليه تشامبلين ماريفو وأوليفر جولد سميث وريتشارد برنسلي شريدان وبومارشيه.
كما حلل للبنية العميقة تحت تنويعات الملهاة التهكمية بدراسة عدد من المحاور منها: ثنائي العشاق، الآباء الأوغاد وعملية الدمج في السوق، الآباء العقلاء واختبار الصدق، كشف اختيار الصدق وتجاوز الملهاة العاطفية. وقد جاء ذلك كله بقراءات تطبيقية على أبرز الأعمال التي قدمها هؤلاء الكتاب وتجلت فيها كافة عناصر الملهاة التهكمية.
وأوضح د. سيد الإمام اهتمامه هذا بالارتحال في الزمن إلى الماضي وإلى أوروبا بأنه اعتناء بالواقع الراهن مصريا وعربيا وما فيه من مكونات ثقافية وفنية، جاءت إليه من أوروبا في عقل من نعتبرهم رواد النهضة العربية، وأضاف “هذه النهضة بدأت بالصدمة الحضارية التي رافقت الحملة الفرنسية على مصر 1789 أي في أواخر القرن نفسه وتحت إرادة القيادة الثورية التي رفعت شعار “الحرية والإخاء والمساواة”.
كما يضم أيضا في مخاض النهضة نفسها صراع الحملة مع الأسطول الإنجليزي في معركة أبوقير الشهيرة وقتئذ، فكانت الحملة بمعنى من معانيها المسكوت عنها، أبرز تجليات “صدمة الابتذال” في البرجوازية الأوروبية التي راحت تقاتل على توسيع رقعة نفوذها ومناقضة شعاراتها الثورية نفسها باحتلال المستضعفين واستعبادهم وتجريف مواردهم الطبيعية، وتحويل بلادهم إلى سوق لترويج المنتجات المصنعة.
وعلى هذا النحو كانت تتشكل مع الصدمة الحضارية ومن تحتها صدمة الابتذال التي مازلت تهيمن على السياسة الدولية وإن تغيرت ثيابها والمساحيق التي تطلي بها وجهها.
وأشار إلى أن الملهاة التهكمية أو الهجائية تكشف نماذج إنسانية ملتبسة، نتيجة شيوع العاطفة المسرفة وبطلها الأعلى كما يتمثل في “الانسان الطيب”، ففي مقابل النبيل المتغطرس الذي يستهين بالأخلاق، قد تكشف عن العاطفي المخادع، الذي يصطنع الرقة والأدب الجم ويتشدق بالواجب، بينما يخفي ـ في الحقيقة ـ ميولا إلى الدناءة والخسة والشره للجنس أو المال، أو كليهما معا. مما يؤدي إلى أن يسئ الآخرون الحكم عليه، والتورط في المسافة بين قناعه الذي يتبدى عليه ووجهه الذي يخفيه. وقد تكشف عن العاطفي المخدوع “المغفل” الذي يستغل الآخرون من اللئام أخلاقه مفرطة الرقة، لاستنزاف ثروته حتى يوشك على الإفلاس فيتخلون عنه، ويتنكرون له.
وبين النموذجين يتولد نموذج ثالث لا هو مخادع ولا هو مغفل، ولكنه قد يكون حائرا مرتبكا، يدرك ما يشيع حوله من نفاق اجتماعي، ويضيق به، وإما يميل إلى مجاراته بشكل لا يخلو من تهكم، أو ينتقده بخشونة وعدوانية، وفي الحالتين يجنح في العمق إلى صدق المشاعر وإن بدا منحرفا ومندفعا في الوقت نفسه إلى طبقات اجتماعية أدنى. وقد تجمع الملهاة الواحدة بين نموذجين أو أكثر من هذه النماذج وغالبا في صورة أخوين أو صديقين وكأنهما وجها عملة واحدة.
ورأى د. سيد الإمام أن التهكم يعد القاعدة الفنية التي يعتمد عليها النوع الجديد في إصلاح المجتمع حين يطال نموذج “الإنسان الطيب” في “الملهاة العاطفية” بأخطائه التي يرتكبها في مساحة تقاطع الطبقتين “الارستقراطية ـ البرجوازية”، مما أدى إلى تدهور السمعة من ناحية وتدهور الاقتصاد وتبديد الثروة من ناحية ثانية، واستدعاء الفلسفة النفعية من ناحية ثالثة. وكان التهكم آلية إصلاح بديلة في الوقت نفسه عن آلية إغراق المتفرج والبطل معا، في مشاعر الأسى والندم المشحونة بالبكاء، ولا تخلو من عنف لفظي يجرح النفس ولا يعتدي على الجسد.
ولفت إلى أن جذور الملهاة التهكمية إلى أعمال “بيير كاليه تشامبلين ماريفو” ولا سيما المتأخر خلال العقد الرابع من القرن الثامن عشر، وعقب وفاته تبلورت في إنجلترا خلال العقدين السادس والسابع من القرن نفسه عبر أعمال “أوليفر جولد سميث” ومن بعده “ريتشارد برنسلي شريدان” اللذين جعلا سبعينيات القرن الثامن عشر في انجلترا ـ وفق إيفانز ـ إحدى الفترات المتميزة في التاريخ، وجاءا بالعادية والجمود.
ويبرز في الآونة نفسها “بومارشية” أو “بيير أوجستين كارون” في فرنسا الذي حاول معالجة الملهاة العاطفية ولكنه أخفق فآثر أن يستجيب لطبعه فعالج الملهاة التهكمية ومدها بالكثير من تقاليد المهزلة “الفارص” الكامنة في “الكوميديا دي لارتي”.
وقال د. سيد الإمام إنه رغم ما بين الكتاب الأربعة من اختلاف في أسلوب الأداء وتباين المرجعيات المباشرة التي أثرت في كل منهم، إلا أنهم يعودون جميعا إلى ملاهي “موليير” الكلاسيكية، بوعي متفاوت الدرجة بأثر “الكوميديا دي لارتي” عليها، سواء بحبكتها أو أنماط شخصياتها التي تحتمل التطوير وتلطيف السمات وفق مقتضى البيئة، وبحيلها الفنية التي تكفل تزويد الملهاة بعناصر قلت أو كثرت من العزل الخاص، كما حاولوا من ناحية ثانية تجاوز صيغة موليير” بالنماذج التي قلدتها بشكل لا يخلو من بلادة، وفي الوقت نفسه تجاوز ما اعتبروه نوعا مشوها في “الملهاة العاطفية أو الدامعة” إلى ملهاة أكثر أصالة، وأشد اقترانا بروح العصر الذي يعيشون فيه.
وعلى مستوى آخر وبالرغم من تنوع الظروف التي مرت بها حياة كل منهم، إلا أنهم عاشوا الشرط التاريخي الذي تقاطعت فيه الارستقراطية بامتيازاتها القديمة التي طالما دعتها للغطرسة واللامبالاة بقيم الأخلاق، والعناية بشكلية السلوك، بينما تتدهور مقدراتها الاقتصادية تدريجيا، وفي مقابل قطاع على الأقل من البرجوازية الصاعدة التي استهواها نمط الحياة الراقية وراحت تنتحله، ولما كان هؤلاء الكتاب ينتمون إلى شرائح مختلفة من الطبقة البرجوازية خبراء فنيين من محامين وقساوسة، فنانين وأرباب حرفة مشهود لهم بالمهارة، فقد تشكلت رؤاهم للعالم من موقع طبقي على نحو قرب بين أعمالهم الإبداعية مع تلاقي المزاج الفني.
ميدل ايست أونلاين