تجربة ذاتية في ديوان علي منصور

في قراءة سابقة لأحد أعمال الشاعر المصري علي منصور وصفت شعريته بـ «اليقين»، منطلقاً من «الأيديولوجية اليسارية» التي بدأ بها مسيرته الشعرية أو منطلقاً من الرؤية الإيمانية للإنسان والحياة وآلية الانتقال بين يقينيات. هي تجربة شائعة في الثقافة العربية مرّ بها كثيرون من المفكرين والمبدعين عموماً.

يأتي ديوانه الجديد بعنوان «بقايا ألبوم قديم لبرجوازي صغير» (الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة)، وهو ينقسم إلى قسمين كبيرين: النثر والشعر؛ يحمل الأول عنوان الديوان، بينما عنوان الثاني «قلبي حزين وقصائد أخرى»، ويربط الشاعر بينهما بما يشبه الشعار أو التوجه الجمالي الجديد «النثر والشعر يداً بيد».

لقد أسقطت قصيدة النثر هذه الثنائية التقليدية التي سيطرت على الذهنية العربية طويلاً؛ غير أننا نستطيع ملاحظة بعض الفروقات بين القسمين، ومنها أن القسم النثري يقوم على استدعاء الماضي واستحضار الذكريات وغلبة التأمل وطرح بعض القضايا. على أن السمة الأساسية في هذا القسم هي تأكيد تيمة الزوال والانتهاء والتحوّل وكأننا أمام عصرنة لغرض الوقوف على الأطلال. فبعد أن يستدعي الشاعر ذكرياته عن القصر الذي تحوّل إلى مدرسة ابتدائية ينهيها بقوله: «اليوم لا أثر للقصر أو الفيلا؛ لا أثر للسور، لا أثر لشجرة المانجو، لا أثر للعصا ولا أثر للخط الجميل» (ص9).

والأمر نفسه يصدق على القرية التي ضاعت ملامحها شيئاً فشيئاً، ما يدفع الشاعر إلى أن يطلق صيحته الملتاعة «لا تضيعي أيتها القرية/ المحراث أيضاً هناك في الركن/ يجترّ ذكرياته مع أسراب أبي قردان». وهذا ما نلاحظه في العلاقات العاطفية السريعة الخاطفة التي تنتهي هي الأخرى إلى الزوال: «اختفت صاحبة العينين الملائكيتين/ اختفت تماماً/ واختفت معها الأسرة/ وعرف صاحبنا أنهم كانوا من المهاجرين». وهو شيء أقرب إلى وصف الرحلة التي توقف الشاعر الجاهلي أمامها كثيراً.

وفي القسم الثاني تتغلب البنية الزمنية الحاضرة وتأملات الذات لواقعها وتشيع مجموعة من التيمات يأتي الحزن في مقدمها؛ حين يقول: «قلبي حزين أيتها الجدران/ وليس بي رغبة في الخروج إلى المقهى/ لم يعد هناك هواء للحكايات/ والأخبار كلها لا تأتي/ إلا بما يجعل القلب حزيناً/ وما يذبح الرغبة في الخروج إلى المقهى».

تأخذ الأماكن في هذه السطور دلالة رمزية على حالات الشاعر النفسية، فالجدران بما تحمله من دلالت العزلة والاختباء والبعد عن العالم تتوازى مع تيمة الحزن المسيطرة ويتحول العالم بأخباره إلى مكان طارد لا يرغب الشاعر في دخوله، والمقهى بطبيعته مكان مفتوح دال على هذا العالم بتنويعاته الاجتماعية والنفسية. بهذه المقاربة تتجلى ثنائية داخل الشاعر وخارجه، وداخل المكان وخارجه؛ بما يؤكد سمة الصراع الذي يتسرب في ألفة وبساطة إلى هذه السطور الشعرية.

وفي قصيدة «هكذا»؛ يتجلى هذا الصراع بصورة أكثر رمزية وأكثر قوة بين القلوب البيضاء بطهارتها ونقائها، والرمال الناعمة. هذه المقابلة تدفعنا إلى تأويل معنى «الرمال الناعمة» التي يمكن اعتبارها صورة كنائية أو معادلاً موضوعياً لأناس يتناقض مظهرهم الناعم مع باطنهم الذي يتسم بالقسوة… «الطيبون انحسروا أمام قسوة الرمال الناعمة/ فهم طيبون/ وقلوبهم البيضاء/ تحول بينهم وبين أن يصبحوا رمالاً ناعمة». الطيبون لايستطيعون أن يتحولوا إلى رمال ناعمة لأن طيبتهم قيمة داخلية تنعكس على سلوكهم الذي يتناقض بالضرورة مع قسوة الرمال الناعمة.

وفي قصيدة «كانت عارية تماماً» يتخذ من لعبة كرة القدم صورة مشهدية دالة على صراعات الحياة الدنيا. هذا التصوير المشهدي الدال يجعل القصيدة بعيدة من فكرة «الموعظة» المباشرة وإن ظلت متداخلة في التفاصيل الصغيرة التي انسلّ منها الشاعر وحده، و «راح يتفرج عليها»، بعدما اكتشف أنها «كانت عارية تماماً/ هذه الحياة الدنيا».

هذه الصورة المشهدية الدالة نلاحظها أيضاً في قصيدة تقدم صورة حية من صور ممارسة الديموقراطية… «كانوا فرحين/ في الطوابير الطويلة/ مع كل منهم بطاقة الرقم القومي وقلم»، وتنتهي القصيدة بقوله: «كانوا فرحين/ يفسحون الطريق للمسنين والمرضى/ كأنما للمرة الأولى يتنفسون».

وتأريخ القصيدة مهم لأنه يدل على انتخابات 2011 التي أعقبت ثورة كانون الثاني (يناير) والتي شعر فيها المصريون «كأنما للمرة الأولى يتنفسون». ولعب تكرار جملة «كانوا فرحين» في بداية كل مقطع دوره في تأكيد هذا المعنى. هذا التكرار الذي يصل إلى درجة الاستقصاء في قصيدة «صباح اليوم الأول من الحرب»، على نحو ما نقرأ في هذه السطور: «صباح الخير على عينيك/ على بقايا النعاس في عينيك/ على الأنامل/ على الخدر الذي يثقلك في السرير/ صباح الخير على السرير/ على الدفء والكسل والشراشف». هذا الاستقصاء لتفاصيل الحياة يبدو كما لو كان مقاومة للموت الذي يسببه «صباح اليوم الأول من الحرب»، ومن هنا تظهر المفارقة بين عنوان القصيدة ومتنها.

لكنّ الرؤية الإيمانية التي ينطلق منها الشاعر تجعل من إشارات الموت رسائل إلهية تذكر الإنسان دائماً بمصيره الذي يلاحقه ويدنو منه. ففي قصيدة «لا تهملوا الرسائل يا أصدقاء»، يقول: «كان كابوساً مريعاً/ على نحو غير مسبوق/ لا لم يكن كابوساً يا أصدقاء/ لم يكن سوى رسالة تقول: انتبه يا هذا/ بلايين الرسائل/ يرسلها الله كل برهة/ لبلايين البشر». الموت والحياة متلازمان؛ كل منهما جسر إلى الآخر وكل منهما يذكر بالآخر.

ومن هنا يأخذ الزمن أهميته في الاقتراب من هذه الحقيقة الواضحة واستحضارها والإيمان بها. يقول في قصيدةٍ: «رجل في الخمسين/ راح يفكر/ ترى في ما تظنون راح يفكر؟/ نعم لقد راح يفكر/ في ما ينبغي عليه أن يفكر/ رجل في الخمسين».

وينعكس هذا اليقين الإيماني على رؤية الشاعر للعالم بما في ذلك الجمادات، كما في قصيدة «الكرسي». والشاعر هنا لا يتحدث على سبيل المجاز أو يجعل من الكرسي معادلاً موضوعياً للإنسان بل يتحدث عن حقيقة يؤمن بها ويتمثلها دائماً. يقدم علي منصور شعرية مختلفة خاصة به وحده ودالة على أصالته وموهبته المتميزة.

صحيفة الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى