بائع المرطبات الذي أصبح كاتب كوبا الأشهر
مدينة هافانا المصابة باليأس والتي تنتشر فيها تجارة الجنس والتهميش، تعد بعض الجوانب التي أبرزها الكاتب بدرو خوان جوتييرث منذ عشرين عاما في كتابه “ثالوث هافانا القذر”، عن تلك المدينة التي لا تزال إلى اليوم تهيمن عليها تلك السمات على الرغم من استعدادها لدخول عصر العولمة من خلال ظاهرة الاستطباق (السراوة) من أوسع أبوابه، والتي تعني إحلال الطبقة المتوسطة من المجتمع بطبقة أرقى منها بسبب التغيرات التي طرأت على البنية الاجتماعية والاقتصادية بعد عصر كاسترو.
هافانا القذرة
يعترف جوتييرث في معرض تقييمه لعمله الأدبي الذي نشر بـ 23 لغة وبيع في 80 دولة، ومع ذلك لم يُنشر في كوبا حتى الآن “بعد عشرين عاماً أعيد قراءتها، فأجدني أكرهها بالفعل، على الرغم من أنها كانت بمثابة نقطة انطلاق بالنسبة إلي لأنها حطمت كل القوالب وكان لها صدى مدو”.
كتب العمل بين عامي 1994 و1997 بعنوان “ثالوث هافانا القذر”، وتعتبر ابنة ما يعرف بـ “الفترة الاستثنائية”، حسب ما أطلق على الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالجزيرة إثر انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي، وكان من أهم ملامحها نقص المواد الغذائية وانقطاع التيار الكهربائي بشكل متكرر.
وتحول الهجرة نحو الخارج إلى ظاهرة “أزمة ركاب الأطواف” عندما اندفع عشرات الآلاف من المواطنين نحو مضيق فلوريدا في قوارب متهالكة محاولين الفرار من البلد الكاريبي. “تلك الأعوام كانت رهيبة، لأنك بدأت ترى بعيني رأسك مشروع عمرك السياسي والقومي ينهار أمامك دون أن تتمكن من إنقاذه”، يشير جوتييرث الذي يعتبر أنه “بالرغم من فشل الدفاع بجدية عن ذلك المشروع، فإنه كان يستحق العناء، على اعتبار أن المرء يجب أن يتحلى بالمسؤولية تجاه العصر الذي يعيش فيه”.
في ذلك الوقت كان بدرو خوان جوتييرث كاتبا مغمورا، ومن ثم للترويج لأعماله بصورة تجذب الأنظار أطلقوا عليه لقب “بوكوفسكي الكاريبي”، على الرغم من اعترافه بأنه في تلك الفترة لم يكن يعرف الكاتب الإيروتيكي الشهير. “كان هذا اللقب فكرة الناشر خورخي هيرالد، كما يؤكد جوتييرث، من شرفة منزله في العاصمة هافانا المطل على كورنيش العاصمة الكوبية الشهير الذي يوفر له مشاهد بانورامية للمدينة وسحرها الأخاذ.
يتذكر جوتييرث تلك الفترة قائلا “إنه كتاب مؤلم لأني كتبته أثناء فترة بالغة الصعوبة من حياتي، سواء على الصعيد الشخصي أو على مستوى بلادي التي كانت تعاني من أزمات متكررة اقتصادية واجتماعية وأخلاقية وسلوكية. في عز الأزمة، كان راتبي الشهري كصحافي بمجلة (بوهيميا) لا يكفي لشراء كارتونة بيض، هذا إذا كان البيض متوفرا في السوق السوداء”، مما اضطره لممارسة أكثر من عمل في اليوم الواحد ليوفر قوت يومه، وقد دفعته هذه التجربة للتعرف على أجواء وأوساط قاع المجتمع في العاصمة هافانا، حيث المهمشون المسكوت عنهم في آخر معاقل الشيوعية في العالم.
هافانا كما يرويها الكاتب واجهات منازل متهدمة وبوابات متهالكة، مع مشاهد عنف وفقر تمتزج بالعهر والفوضى والعربدة المفرطة.
ويضيف الكاتب “توغلت كثيرا في وسط المدينة، فبدأت أكتب مشاهداتي”، مشيرا إلى أن هذا التوثيق كان نواة العمل الذي بسببه ذاعت شهرته عالميا ومع ذلك لم يتمكن من نشره في كوبا.
تعد واجهات منازل متهدمة وبوابات متهالكة، مع مشاهد عنف وفقر تمتزج بالعهر، والفوضى والسكر والعربدة المفرطة، العناصر الأساسية لرواية ” ثالوث هافانا القذر”، والتي بالرغم من مرور أعوام على صدورها لا تزال هذه المشاهد من مكونات واقع الحياة اليومية في العاصمة الكوبية. إلا أن هذه المشاهد تمتزج الآن مع الطفرة التي طرأت على عالم السياحة، بما فرضته من تحولات حضرية على هافانا مثل ظهور حانات ومطاعم ودخول خدمات متطورة مثل خاصية Airbnb لتأجير الشقق والغرف السياحية. ومن ثم يحذر جوتييرث من تبعات هذه الظاهرة قائلا “المدينة قد تدمر بالكامل لتصبح مدينة ملاه”.
ويقول “أنا متشائم، نحن نتحول إلى السراوة بخطى متلاحقة. أصبح هناك تجار لديهم القدرة على شراء مبان وعمارات بالكامل، وإخلائها من سكانها لتحويل شققها وغرفها إلى بنسيونات ونزل سياحية”.
يشار إلى أنه حضريا السراوة أو الاستطباق يشير إلى عملية إحلال الطبقة المتوسطة من مجتمع بطبقة أرقى منها نتيجة لزيادة القيمة الإيجارية للوحدات السكنية مما يضطر السكان الأصليين إلى الرحيل.
النجاح المنقوص
نُشرت رواية “ثالوث هافانا القذر” للمرة الأولى عام 1998، وأثارت ضجة كبيرة في الجزيرة، وعلى إثر ذلك فقد الكاتب بدرو خوان جوتييرث عمله في الصحافة، واضطر إلى التوجه بالكامل للكتابة، إلا أنه لم يغادر كوبا مطلقا. بطبيعة الحال، عانى كثيرا لكي يرى إنتاجه الأدبي على أرفف المكتبات في بلده، لكن من بين 23 عنوانا لإبداعات أدبية تتنوع بين الشعر والقصة والرواية سبعة فقط لم تنشر في كوبا بسبب ضغط الرقابة.
يذكر أنه في عام 2015، لم يتمكن المخرج أجوستين بيارونجا من تصوير الفيلم المأخوذ عن رواية جوتييرث الشهيرة “ملك هافانا”، بسبب تضييق السلطات ورفضها منحه التراخيص اللازمة مما دفعه إلى التصوير في جمهورية الدومينيكان.
ويعترف جوتييرث بفخر تعليقا على ذلك “أشكر أعدائي كثيرا، وكذلك العقبات التي وضعوها في طريقي، لأن وجود كليهما في حياتي يعني أنني لست مديوكر”، مؤكدا أن المعوقات تعني أنه يقوم بعمل مهم يقلق أصحاب المصالح الشخصية.
يتابع جوتييرث قائلا “الآن هناك عقلية أكثر انفتاحا مقارنة بعام 1998” مفصحا عن أن هناك مفاوضات لنشر ثالوث هافانا القذر في كوبا، ولكن في غضون عامين أو ثلاثة أعوام قادمة”. كما يؤكد المؤلف، الذي يقول إنه لا يكتب “من أجل المال أو الشهرة، ولكن بدافع داخلي قوي”، أن “الكاتب ملزم بطريقة ما بتوثيق العصر الذي يعيش فيه.
ويبرهن على ذلك بقوله إنه في الثامنة والستين من عمره الأدب يفتح أمامه الأبواب للوصول إلى الناس والتعرف على وجوه أخرى للواقع الكوبي، من جانب أقل بطولية وأكثر إنسانية. يقول “لا أهتم بالسياسة، ولا أدلي بدلوي فيها”. كذلك لا يعتبر أن كتبه سياسية، بل تركز على الفقر ومدى تأثيره على المجتمع وعلى الأفراد بصورة مباشرة.
على الرغم من النجاح الذي حققته روايته “ثالوث هافانا القذر”، يفضل جوتييرث الاستمرار بعيدا عن الجوانب الاحترافية في عالم صناعة الأدب والنشر، كما لا يحب المشاركة في المعارض والندوات وغيرها من التظاهرات الثقافية؛ يقول جوتييرث الذي لم يصل إلى المكانة التي حققها والاعتراف به كأديب مرموق ضمن بانوراما عالم الثقافة الناطقة بالإسبانية بسهولة على الإطلاق “أنا إنسان عادي جدا، وهذه الفعاليات تترك لدي شعورا بأنني مهرج”.
يُذكر أن الكاتب الكوبي مارس في صباه العديد من المهن من بينها بائع جرائد ومرطبات، وعامل بناء فضلا عن تجنيده، والعمل التقليدي الكوبي في حقول القصب، في حين التحق بالعمل الصُّحفي في سن السادسة والعشرين حيث كتب لدى العديد من الجرائد، وأخيرا حقق النجاح في سن الثامنة والأربعين لينتشله من العمل ككاتب مغمور إلى عالم الشهرة من خلال الرواية التي كتبها قبل عشرين عاما.
ميدل إيست أونلاين