الكذبة تولّد حكايات حجي جابر
لكل رواية مدخل، أحياناً مداخل لقراءتها، لمحاورتها، ولتلقي وجوهها وعالمها ولعبتها. يحدث هذا من العنوان، من الاستهلال، من الصفحات الأولى لسردٍ يحبو ليغذّ السير، فإن لم تمسك خيطاً، لم تصافحك شخصية، أو لم تحدس ببعض ما سيأتي فتصبح أنت القارئ شبه شريك في ما تقرأ كأنك تكتبه، فاعلم يقيناً أن الكاتب أخطأ الطريق، ولينصرف إلى شغل آخر. مع الرواية الجديدة لحجي جابر «رغوة سوداء» (دار التنوير)، تكفي جملة البداية لتضعك في الزمن والمكان و «الحبكة»: «كان يمكن لنهار السبت هذا أن يبدو عادياً جداً في أديس أبابا» وتقع في شَرَك حكاية، تتوالد منها حكايات، وأحبولةُ خُدعة، كَذبةٌ تحبل وتتناسل منها بدورها خُدعٌ وكذبات، حتى لتغدو الرواية كذبةً كبرى من البداية إلى..
هل الرواية، مذ وضع لبنتها الأولى ميغل دي سرفانتس(1547- 1616) في تخييله المثير: «دون كيخوته دي لامانتشا» (1606) غير هذا، أي: محفل كبير للوهم والخدعة والاختلاق. أقنومٌ أولُ اعتمده جابر في روايات سابقة «سمراويت» (2012)، و «مرسى فاطمة» (2013) ضمناً، وفي «رغوة سوداء»، لم يعد قناعاً ولا مسوِّغاً، بل أصبح معلناً، وسُنّةَ حكيٍ تؤسس السرد وتنظّم مسارَه، بل وتتحكم في مجرى الأحداث وأفعال الشخصية حتى حسم المصير. «ما الحكي إلا اختلاق، عدا ذلك هو محض تقليد رديء لساعي البريد» (212). أي نعم، هو كذلك، لكن، كل من يختلق، فإنما ليزيد على ما هو مخلوق، يطورُه، ينوع فيه، يمَخيِله إذ يركِّب له أجنحة، فكيف ومنبتُه مَغنىَ الحكايات، الشفويُّ كتابُها والسحرُ/ الإيهامُ شفاؤها.
ينطلق حجي جابر من واقع صلد، ثم يحلِّق، فقصتُه الأصل ذاعت فضيحتها في الآفاق: هجرة يهود الفلاشا إلى إسرائيل (بيتا إسرائيل)، من أثيوبيا وجنوب السودان، بدأت عام 1986 وانكشفت وتصاعدت علناً بعد ذلك تباعاً بدءاً بما سُمي «أجنحة الحمام» (2012). من هذه المادة وخبر خام فيها، غدت سيرةً تاريخيةً بأخبار وأحداثٍ جِسام، وبالمعرفة الشخصية لمن محتدُه ومولدُه يعود إلى إرتيريا، سيصنع الكاتب، فالرواية صناعة، ويحكي لنا قصته. نسغُها ومعلومات كثيرة باعتبارها جزءاً ضرورياً من خبرة الروائي واستقصائه، تنتمي إلى حقل التاريخ العام، أرضية القصة وأعمدتها الواقعية وإطارها أيضاً، والباقي كله تحويل.
داويت، شابٌّ إرتيري، تضطره قسوة الخدمة العسكرية، واعتقالُه في معسكر تعذيب للهرب إلى إثيوبيا، ليُقبل بعد ضنى في مخيم (إنداغابونا) للاجئين، ومنه بعد عديد مناورات، عندما لم يحصل على بطاقة اللجوء إلى أي بلد أجنبي، يخاطر ليهرب ويصل إلى مخيم (غوندار) مركز تجمُّع يهود الفلاشا الذين سيتم نقل آخر فوج منهم إلى إسرائيل، وتنجح محاولته للتسلل وسطهم، والانتقال معهم بالنزول أخيراً في مطار بن غوريون، والعيش موقتاً في تل أبيب، ومنها يُنقل إلى القدس للاستقرار في سكن مشترك بإحدى المستوطنات. هنا حيث يفترض أن يبدأ حياةً جديدةً بعد أن اعتقد أنه بوصوله إلى أرض الميعاد قد أدرك (النجاة)، أنّى له، إذ قدرُه يتبعه من البداية يحول دون ذلك، ويلقى حتفه برصاص إسرائيلي.
أصل هذا كله كذبة، أو ما لا يمكن القبض عليه، فيبقى ملفقاً، متلوناً، متعدداً، نبع ومشتل حكايات، لبطلها وجواره ومحيطه، والمصير ذاته الذي ارتبط به، فلاشاً، أي من كانت لهم ديانةٌ وارتدّوا عنها ثم إليها يعودون ليرحلوا نحو بلد يعدهم بالنجاة، كما توهّم داويت نفسه. هو ابن لا أحد، ابن سِفاح، ثمرة محرّمة لعلاقات جنود في معسكر، ذرِّيتُهم تسمى(أبناء النضال) تُربى وتتدرّب جيدا لخدمة النظام، ولاؤها له وحدَه لانعدام أي انتماء قبلي أو عقائدي، الثورة (الأرتيرية) وِجهتُهم الوحيدة (الأم والوالد). لذلك، لا يملك إلا نفسَه إن ملكها، ومصيرُه بيده لو استطاع ووجد سلاحاً/ مفتاحاً، المفتاح الأول للخلاص من شقاء وطن هو منه وليس الفرار. فيما المفتاح الثاني، النّاجع، الفتّاك، الذي به يفتح كل الأبواب، ولو إلى الجحيم، أن يتخلى عن البلد والدين، ويعتنق دينا آخر يعتقه من قسوة الوجود، فلاشا إسرئيلي ولا العدم؛ إنه المفتاح السحري: تلفيق الحكايات، وبإفراط» بعضها مختلَق وأخرى سمعها»؛» كل شيء من حوله قابل أن يصبح حكاية مثيرة (…) يعيد ترتيب الأحداث، يضيف عليها، يحذف القشور والزوائد ويتجه صوب المتن»(100). يكذب داويت حتى الزّهو «ينسج أكاذيب من العدم»، يُبحر من حكاية إلى أخرى، هي سلسلة كذبات بها تُبنى قصتُه وتتسلسل حلقاتُها لا تعاقبياً، ولكن ذهاباً وإياباً، طرداً وعكساً، تفترق لتعود تتعالق، صانعةً بانقطاع الوشيجة تشويقها، مرة تخض قارئها وثانية تهدهده، بما يناسب حالتي التأزم والانفراج لأزمة بطلها.
المفارقة أن كذباتِه تأخذ مكانَ الحقيقة، وهذه تكمُن خلف تلك، وهكذا بينهما جدلٌ حيٌّ ودائم. ولكل كذبة حكاية، والحكاية كذبة، وإن ارتبتَ فيها أضعتَها، وصاحبُها حاكيها لا يطمئن لنفسه، بله لا يوجد إلا داخلها، بها. يحمل أربعة أسماء: «أدال (اسم جماد، جبل!)؛ داود (اسمه «الحقيقي»)؛ ديفيد، وداويت، تتغير حسب المكان والزمن والورطة- المغامرة: «خرج من إرتيريا باسم، ودخل إثيوبيا بآخر..» (135). وبما أنه بلا نسَب معتمَد، فإنه يملك حرية صنع ذاكرته بها يصوغ تاريخه، يستعرضه حلقاتٍ أمام الموظف الأوروبي المنوط به في المخيم فحص حجج طالبي اللجوء إلى الخارج، والاستماع إلى حكاياتهم المملة المتشابهة، أي أكاذيبهم المستنسخة من بعضهم، كقارئ هذه الأيام للروايات العربية، يمجّها جلها، إلى أن وقف أمامه داويت، وقرر هذا أن ينزاح عن رواة المخيم ويأتي بـ «خلقه» اختلاقه، فطفق ينسج حكاياته ـ عديدة وجزءٌ مهم من متن الرواية ـ متنقلا بينها على هواه، يربط ويفسخ، متفننا في أكاذيبه استهوت الأوروبي محب العجيب والغريب، لينقلنا الكاتب معها إلى طقس الحلقة الشفوية، غالبة في هذا العمل، بوجود سارد عليم، بمثابة الرواي التقليدي، يتساكن مع الشخصية ويتماهى معها، ثم ينفصل ليتصل… ويعدد الشخصيات والمحافل، ليكسر رتابة السرد الأُحادي ومركزية البطولة الفردية، فقصته جماعية، لأرض وشعوب وأديان وصراعات ومطامح، والفرد فيها تكثيف لكل القهر والحرمان، وضرورة لتتويج التراجيديا.
منذ نعومة سرده دأب حجي جابر على رسم روايته بانتباه ورهافة: جغرافيتها وفضاؤها، ناسها وهمومها وأوهامها، أيضاً، وأثّث عوالمَها بما يناسبُها يعيِّنها محلياً فتتحدد لها مياسمُها الإتنية والاجتماعية والثقافية، كذا خطوطها السياسية، صانعاً بذا الوضعَ الضروريَّ أولاً للرواية، على أرضيتها وبين تضاريسها وعلى سفوحها ينشئ بناءه الروائي ومحافلَ حكيه، يطلق فراشات تخييله، فيأتي هذا كله منتسباً ومقنعاً. هو منهج ونهج طوّرهما في «رغوة سوداء» وذهب بهما أبعد على النحو التالي:
أولاً، يتتبع القارئ ظهور شخصية داويت في مواقع وعناوين وبأسماء وأوصاف وألوان وروائح وأصوات ومشاعر ناطقة كذلك، أي هناك عين كاميرا، عيونٌ ما انفكت ترصد وترسم المَشاهد عن قرب وبعدـ الجزئي والكلي، المفرد والجمع، الظاهر وحتى الباطن تتغلغل إليه بلغته، لقد تتبع مغامرةَ بطله بمراحلها الخطيرة والمثيرة وحتى الغرائبية بعينٍ لا تنام، ما نغري القارئ بالإسراع لاكتشافه، من نوع المثير، شبه الخارقrocambolesque . وجابر، ككل روائي جدّي يصف ويكتب عما يعرف(بلاده ومجتمعه الإرتيريان، والقرن الأفريقي عامة) وجهد أيضا ليعرفه، ما يتجلى عند وصول داويت إلى إسرائيل، هنا تتواصل حاسة الوصف الخبير والدراية بالأماكن، لا يغمض للكاميرا جفن قط، ليلاً ونهاراً. ليس الغرض الإقناع بواقعية طبيعية (زولا)، ما يتيحه المحيط المنظم، المنمّط، الذي انتقل إليه، وكذلك الحدود والأدوار المرسومة بدقة للسكان والسلطة، بل أبعد لإبراز وتأكيد أن التراجيديا تحدث في الأرض وليست ملحمية، وأبطالُها بشرٌ لا آلهة، مع وجود تماثل نسبي، إذ رحلة عوليس أهم من وصوله إلى إيتاكا، وكذلك مغامرات داويت أبلغ من نهايته.
ثانياً، وجه التطور الثاني والحاسم في مشروع جابر الروائي هو جعل القصة/ الواقعي، مغموسة في السحري، لا بواسطة الغريب أو العجائبي، وإنما، كما ذكرنا، بالاختلاق، بفن الكذب، ينقل السرد الروائي الكلاسيكي إلى سكة الحكاية: «أعترف أنك أبرعُ حكّاء في [مخيم] إنداغابونا كله» ينوه الأوروبي بداويت، ويضيف إعجاباً: «مثل حكاياتك لا يمكن تفويتها». ما يعني أننا أمام سردية تخييلية مسربلة في الحكائية ومشبعة بها، بوصفها اختيارا فنيا إذ يناسب موضوعه، فإنه يوسع أفقا للرواية العربية يخصبها وينوّعها، كم نراها تتهافت اليوم في سرود مائعة ومعلّبة وبأساليب وحبكات جاهزة، ولتيمات أحياناً تحت الطلب، تفتقر إلى رؤية عميقة، ذاتية مجتمعية وطنية وإنسانية، وباجتهاد للموهبة إذ تمهر في صنعة الكتابة.
تُمنى مغامرة داويت بالخسارة، ويُردى قتيلاً برصاصة جندي إسرائيلي من طريق الخطأ، فيما هو فارٌّ قد افتضح سرُّ تسلله إلى إسرائيل مع الفلاشا وهو ليس يهودياً، فضاع أمل النجاة، وما ضاع كثير، عند الإسرائيليين والفلسطينيين معاً، ولا عند الضحية؛ إن هو إلا رغوة ليس أكثر- وسوداء من سواد بشرته-طفت على السطح على رغم كل ما فعلت للاستقرار في المكان وعمق الأشياء. هو إذاً زائل، عابر، ضحية خدعة، سلسلة حكايات، أكاذيب، نظير الكذبة الخدعة الإسرائيلية الكبرى، وأمل الخلاص المستحيل للمقهورين مثله، وليس مثل الإيهام والكذب (الفني) للحكاية شكلاً لنقل هذه الرؤية، خلت من نبرة الاحتجاج والمناظرة الصارخة، وقد تمثلت الشكلَ الروائيَّ لغرضها وجمّلته، ولو استعرنا عبارة البحتري ما وجدنا أفضل من القول: أمهر السرد أكذبه!
صحيفة الحياة اللندنية