رقصة مع شرطي
كنت في شرفة دارنا ذات فجر جالسا انتظر شروق الشمس فإذا بي ألاحظ وجود شرطي جالسا مثلي في ركنه المعهود من جانب الشارع و إلى جواره جهاز يصدر عنه غناء و موسيقا . فقلت لنفسي كما أذكر ، ها هو موظف بسيط يسهرالليل حفاظا على الأمن تسلية الموسيقا ويبدو منسجما مع وحدته و جلسته و طربه …
في تلك الجلسة بالذات تذكرت الكُتاب الذين لا تقرأ لهم نصا إلا وجدته مسلحا بالأنياب و الأظافر و النواح ، من هم بالنسبة لهذا الموظف البسيط القادر في أدائه وظيفته أن يصمد للتعب و السهر ، و أن يصغي للغناء و الموسيقا كأنما هو في أحسن و أسعد حال .
هؤلاء الكتاب الذين لا يعرفون ما هو الفرح ليس لأنهم لم يشعروا به و إنما لأنهم يعتبرونه نقيصة تحط من أقدارهم في حين يرفعهم الألم إلى سماء الخلود و العبقرية ، إنهم كما يبدو، لا يعرفون ما هو التسامح مثلا و ما معنى المصالحة مع الحياة لا لأنهم مفطورون على الحقد أو لأنهم بلا أصدقاء و منهم قد أثبتوا في أكثر من مناسبة أنهم قادرون على مصافحة المجرمين و عناق الظالمين الذين طالما تباهوا بكرههم.
إنهم يملكون موهبة واحدة هي أنهم الأقدار دوما على تصوير شروق الشمس أنه مضعف للشمس و نذير كارثة إنطفائها و على القول بأن الضحك إذا ما ازداد فهو دليل على مهارة البشر في اصطناع الفرح كأقنعة يخفون فيها الخسة والضعة والتفهاهة والغثاثة في كل ما يصدر عن البشر من رغبات للإحتفال بالرقص و الغناء … فيا أعزائي البسطاء … كيف تصدقون هؤلاء و تصفقون لهم فتبكون و تندبون معهم و الحياة بقدر ما فيها من المأتة و الأوجاع ، فيها من الأعياد و الأفراح ما يستحق أيضا الإنتباه أن نفهم أن سواد الحياة أو الوجود ضروري لفهم بياض الحياة و دور الإنسان الواعي أن يفهم الوجود بمعناه الحقيقي الجدلي بين الشيء و نقيضه.
ها أنا ذا كما أذكر عن تلك الخواطر التي ألهمتني إياها جلستي تلك و أنا أشاهد الشرطي البسيط أقدر من أولئك الكتاب على إبتكار الفرح من خلال جلسة بسيطة …
كان الشرطي في تلك السهرة ما يزال يتجاوب مع الموسيقا غير أنه على ما يبدو نهض واقفا مع الموسيقا التي تغيرت إلى إيقاع راقص و قد حلا له أن يحرك جسده مع الإيقاع في رقصة تشبه الدبكة ، فأنرت مصباح الشرفة بدوري و قد خطر على بالي أن أشارك ذلك الشرطي رقصته و عندما لم يلاحظ حركاتي صرخت عاليا أناديه ملوحا بذراعي و صوتي أن يصعد إلى بيتي كي نرقص معا فإذا به يلوح بذراعه و يصرخ عاليا ما فهمت منه أنه يعتذر عن عدم إمكانه تلبية دعوتي لأن وظيفته كما يبدو كانت تتطلب منه ألا يخلي مكانه إلا لرفيق آت بديلا عنه …
و هكذا صرنا صديقين متفاهمين من بعيد لبعيد على رقصة مشتركة في بشائر ضياء صباح سعيد !.. فما رأيكم ياحضرات الكتاب المتشائمين بهذه الخلوة الطارئة مع الموسيقا و الإنسان البسيط في صباح مشرق ؟…